قمنا بدورنا قبل ثورة25 يناير في النقد الاجتماعي المسئول للسياسات المنحرفة التي كان يطبقها النظام السياسي للرئيس السابق مبارك والذي أسقطته جماهير الشعب. ونحن هنا لا نلقي الكلام علي عواهنه لأن الأرشيف الذي يضم كتاباتنا النقدية لا يكذب, وهو مسجل إلكترونيا علي شبكة الإنترنت ويستطيع أن يرجع إليه أي قارئ مهتم. وقد قمت من باب التوثيق العلمي- بجمع المقالات النقدية التي نشرتها في جريدة قومية هي الأهرام المسائي من3 يناير2009 حتي21 مارس2011 في كتاب صدر بعنوان ما قبل الثورة: مصر بين الأزمة والنهضة: نقد اجتماعي ورؤية مستقبلية..( القاهرة: نهضة مصر, الطبعة الثانية,2012) وقد نشرت مقالين منتقدا فيهما ظاهرة خطيرة هي الانحراف في صياغة القواعد القانونية( بتاريخ5 ديسمبر2009) والانحراف التشريعي والفشل القانوني( بتاريخ9 يناير2010). وقد تعرضت في هذين المقالين بالنقد العنيف للاتجاه المنحرف الذي كان يتبناه مجلس الشعب المزور في النظام السابق, والذي كان يعتمد فيه الحزب الوطني الديمقراطي علي أغلبيته المزعومة لكي يسن تشريعات بالمخالفة لكل القواعد المرعية في صياغة القواعد القانونية. وأطلقت علي هذه الظاهرة الانحراف التشريعي. ما الذي جعلني أستذكر هذه المقالات التي كتبت ونشرت قبل الثورة؟ الإجابة علي ذلك تكمن في أن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة واستنادا إلي الأكثرية التي حصل عليها في انتخابات مجلس الشعب والتي لم تكن مزورة والحق يقال, استخدمت نفس الأساليب المنحرفة التي كان يطبقها الحزب الوطني الديمقراطي الذي تعود علي سن تشريعات ليست للصالح العام ولكن لتحقيق مكاسب لأهل السلطة الفاسدين ورجال الأعمال المنحرفين, بالمخالفة التامة لأصول وضع القوانين وسن التشريعات. وحتي أشرح خطورة الظاهرة ذكرت في مقالي الأول السابق الإشارة إليه إننا تعلمنا كقانونيين أن القاعدة القانونية تتسم بالعمومية والتجريد, بمعني أنه لا يجوز إصدار تشريع ما لخدمة مصالح جماعة معينة أو طبقة معينة أو أفراد معينين, فذلك يخل بمبادئ صياغة القواعد القانونية التي يحكمها مبدأ أساسي مبناه أن التشريع أيا كان مجاله- ينبغي أن يراعي التوازن بين المصالح المتعارضة وبعد هذه المقدمة وجهت النقد العنيف للمشروع الذي تحمس له من باب الفساد السياسي- الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء في هذا الوقت في إنشاء طريق يمر في طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوي, ويتضمن ذلك نقل بوابات الطريق الصحراوي إلي الكيلو.122 والموقع الجديد يسمح بضم منتجعات الطريق- التي بنيت بالمخالفة للقانون علي أرض مخصصة للزراعة ولذلك بيع الفدان بخمسمائة جنيه- لكردون الجيزة و6 أكتوبر. وهذه المنتجعات بعد تحويل الأراضي الزراعية إلي أراضي بناء بيع منها الفدان الواحد بخمسة ملايين جنيه! فكأن الدولة تواطأت مع رجال الأعمال الفاسدين علي نهب أراضي الشعب, والتربح من الاتجار بها وحصد الملايين الحرام. وهذا القرار الذي أشرنا إليه بنقل البوابات إلي الكيلو122 معناه تحويل الأراضي الزراعية في غمضة عين, لتصبح أراضي للبناء تتم المضاربة عليها كما تم بالنسبة للمنتجعات! وهكذا أستغل الدكتور نظيف رئيس الوزراء الأسبق الذي كان يقيم في ثلاثة قصور في وادي النخيل بالطريق الصحراوي التشريع بصورة منحرفة, لكي يتاجر هو وأعضاء عصابة رجال الأعمال الفاسدين في الأراضي الزراعية التي سبق لهيئة التنمية الزراعية أن باعت الفدان بسعر يبدأ من خمسين جنيها! حين قامت ثورة25 يناير وبدأنا في مسيرة التحول الديمقراطي للانتقال من السلطوية إلي الليبرالية الحقيقية, وبعد انتخابات نزيهة وشفافة لمجلسي الشعب والشوري حصل فيها حزب الحرية والعدالة( الإخوان) وحزب النور السلفي علي الأكثرية, ظننا وهما أنه يستحيل إعادة إنتاج النظام السياسي السابق بأي صورة من الصور. غير أننا فوجئنا بأن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي تريد الاستحواذ علي كل المؤسسات السياسية في البلاد, استنادا إلي الأكثرية التي حصلت عليها. وقد أثار هذا السلوك الاستحواذي الخطير علي مستقبل التنوع الديمقراطي استنكار كل القوي السياسية وفي مقدمتها الائتلافات الثورية. غير أن جماعة الإخوان المسلمين استمرت في غيها وأرادت الاستحواذ الكامل علي تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور, حتي تضعه وفقا لتوجهاتها الإيديولوجية التي لا تعبر بالضرورة عن توجهات الشعب المصري بأكمله. وهكذا أصدر مجلسا الشعب والشوري قرارا بتشكيل معيب للجنة ألغته محكمة القضاء الإداري. وبالرغم من ذلك أصرت جماعة الإخوان المسلمين علي أن تحتكر تشكيل اللجنة ورفضت كل محاولات القوي السياسية الأخري لإقناعها بضرورة مشاركتها في وضع الدستور, وعرقلت كل محاولات التوافق السياسي. ولعل السبب أنها أرادت أن تؤجل وضع الدستور إلي حين عد انتخابات رئاسة الجمهورية في جولتها الثانية أملا في أن ينجح مرشحها الدكتور محمد مرسي ويصبح رئيسا للجمهورية. وهكذا يتم وضع الدستور في ظل الهيمنة المطلقة لجماعة الإخوان المسلمين علي كل المؤسسات السياسية, والتي تتمثل في السيطرة علي المجالس النيابية وتشكيل حكومة إخوانية في ظل رئيس إخواني للجمهورية, وبذلك تكتمل الاستراتيجية الأساسية للجماعة وهي أسلمة الدولة تمهيدا لأسلمة المجتمع. ولم تتورع جماعة الإخوان المسلمين تقليدا للحزب الوطني الديمقراطي المنحل- في أن تلجأ إلي الانحراف التشريعي استنادا للأكثرية. وهكذا صاغت قانون العزل السياسي في ساعات قليلة لاستبعاد عمر سليمان وأحمد شفيق من انتخابات الرئاسة. وهذا القانون مصاب بعوار قانوني شديد, لأنه خالف القاعدة القانونية المستقرة بكونها عامة ومجردة, وفصل القانون تفصيلا لاستبعاد أشخاص بذواتهم. والقانون المعروض علي المحكمة الدستورية العليا معرض للإلغاء, مما من شأنه أن يزيد من ارتباك المشهد السياسي الزاخر بالمشكلات المتراكمة والتي تكدست نتيجة للتخبط السياسي في تسيير المرحلة الانتقالية, والاستناد إلي الانتخابات أولا قبل وضع الدستور. وقد حاولت جماعة الإخوان المسلمين عن طريق حزبها الحرية والعدالة أن تعيد تشكيل المحكمة الدستورية العليا, وفي ذلك عدوان صارخ علي السلطة القضائية من قبل السلطة التشريعية التي تهيمن عليها الجماعة. ولم تنجح الجماعة في تمرير هذا القانون, نظرا لمقاومة ممثلي السلطة القضائية له. غير أن دلالته تكمن في أن جماعة الإخوان المسلمين تعتقد أنها بحكم الأكثرية من حقها أن تجري تعديلات جوهرية علي سلطات الدولة المختلفة, وفقا لما تراه هي وقادتها, وليس تعبيرا عن الإرادة الشعبية الحقيقية. وفي تقديرنا أن هذا الانحراف التشريعي يعبر عن انحراف سياسي واسع المدي, من شأنه تهديد المستقبل الديمقراطي للبلاد. وذلك لأن ثورة25 يناير لم تقم لاقتلاع جذور نظام ديكتاتوري فاسد لكي يقام علي أنقاضه نظام ديكتاتوري جديد, تبدو خطورته في أنه ينطلق من توجهات دينية لا تعبر بالضرورة عن مجمل إرادة الشعب المصري. علي المجتمع أن يقرر في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ مصر اختياره الأساسي, والذي ينبغي أن يكون انحيازا لتراث الدولة الوطنية المدنية والتي ناضلت عشرات الأجيال من الساسة والمفكرين والمثقفين لإقامتها بالرغم من مقاومة القوي الأجنبية والرجعية المحلية علي السواء. نقلا عن صحيفة الاهرام