المفترض أن يكون أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور بلا قيود أو حواجز تعترض أفكارهم واجتهاداتهم.. وهم يضطلعون بهذه المهمة التاريخية. كذلك ينبغي توفير المناخ الذي يكفل رفع أي حرج عنهم أو يشكل أدني تأثير علي حريتهم في التفكير وهم بصدد صياغة العقد الاجتماعي الذي ينظم مختلف جوانب الحياة في المجتمع ويضع أسس ومقومات الدولة واختصاصات كل سلطة وحدود العلاقة بين هذه السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والمبادئ الأساسية لنظام الحكم والحقوق الأساسية للمواطنين. والمعروف ان علي كل سلطة من السلطات أن تمارس دورها واختصاصاتها وفقا لقواعد الدستور. وإذا تجاوزت هذا الدور أو تلك الاختصاصات تكون مخالفة للدستور. ولما كان الدستور هو أبوالقوانين، الذي يسمو علي ما عداه من تشريعات مثل القوانين واللوائح، فإنه الدستور يعبر في مجمله عن إرادة الشعب، بينما تصدر القوانين تعبيرا عن إرادة ممثلي الشعب. ومن الطبيعي أن تغلب إرادة الشعب علي إرادة ممثليه. والدستور هو الذي يؤسس المجلس التشريعي البرلمان وليس العكس. ومن هنا تتضح ضرورة الفصل بين مهمة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وبين البرلمان. وعلي سبيل المثال، فإنه إذا كان هناك اتجاه داخل جمعية تأسيسية تضم أعضاء من البرلمان.. لتوسيع سلطات هذا البرلمان علي حساب سلطات رئيس الجمهورية.. فمن الطبيعي أن تكون للبرلمانيين مصلحة في هذا التوسيع، لأنهم هم أنفسهم البرلمان. ومثال آخر، إذا كان هناك اتجاه لإلغاء مجلس الشوري في الدستور الجديد.. كيف تدور مناقشة حرة بعيدا عن الاحراج بين أعضاء مطلوب منهم إلغاء وجودهم مع إلغاء الشوري. ومثال ثالث، إذا كان هناك من يريد إلغاء نسبة الخمسين في المائة من العمال والفلاحين بعد أن ثبت أن من يدخلون البرلمان بهذه الصفة ليسوا عمالا وليسوا فلاحين فكيف يمكن أن تدور مناقشة مع من أصبحوا أعضاء في البرلمان بدعوي أنهم عمال وفلاحون حول إلغاء وجودهم! هذا هو السبب في أن أساتذة القانون الدستوري يحذرون من وضع الجمعية التأسيسية للدستور والسلطة التشريعية في يد واحدة، ويطالب بعضهم بجمعية تأسيسية منتخبة خصيصا لوضع الدستور، أو بتشكيل لجنة من ممثلي كل القوي السياسية والحزبية وأساتذة القانون الدستوري لوضع مشروع يطرح للاستفتاء الشعبي. وكان الدكتور أحمد كمال أبوالمجد قد اقترح تشكيل لجنة عليا من شخصيات فكرية ومستقلة تكون حلقة الوصل بين كل القوي وملتقي لكل الآراء الخاصة بقضية الدستور، ومن ثم.. صياغتها في بنود توافقية حتي لا ينفرد تيار بعينه بهذه المهمة وحتي لا يترك الأمر لفتاوي البعض. وكما ذكرت في مقالات سابقة.. فإن المستشارة الدكتورة نهي الزيني، خبيرة النظم السياسية والقانون الدستوري، حذرت من الخلط أو الدمج بين الجمعية التأسيسية والهيئة التشريعية، وقالت انه لا يجب أن يكون أي نائب في البرلمان.. عضوا في الجمعية التأسيسية. كما ان الدكتور ثروت بدوي، الفقيه الدستوري، أكد ضرورة اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية من الشعب مباشرة، ورفض فكرة قيام مجلسي الشعب والشوري باختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لأن البرلمان لا يصنع الدستور، ولكن الدستور هو الذي يصنع أو ينشئ البرلمان. وتعتبر المستشارة تهاني الجبالي، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا ان اقحام النواب في مهمة وضع الدستور.. أمر بالغ الخطورة. ولما كان الإعلان الدستوري ينص علي قيام مجلسي الشعب والشوري بانتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، فإنه ليس من المعقول أن ينتخب النواب أنفسهم لأداء مهمة وضع الدستور، لأنهم سيكونون في هذه الحالة خصما وحكما في ذات الوقت. والبرلمان، في رأي المستشارة تهاني الجبالي،.. إلي زوال.. بينما الدستور باق تتوارثه الأجيال، كما ان مشاركة نواب البرلمان تضع الكثير من القيود وتهيئ المناخ للانحراف بالدستور عن مجراه الحقيقي، وتفتح الباب أمام مشاعر الريبة والتشكيك في مصداقية وشرعية هذه المشاركة. وقد أشرت في مقالي السابق إلي الطعون في قانون الانتخابات البرلمانية الذي جري علي أساسه انتخاب مجلسي الشعب والشوري، وإحالة هذه الطعون إلي المحكمة الدستورية العليا.. وتأثير ذلك علي قضية الدستور. وها هي المستشارة تهاني الجبالي تدعم هذا الرأي بقولها ان البرلمان قد يصبح في مهب الريح إذا ما جاء حكم المحكمة الدستورية العليا ليكتب نهايته ويقرر عدم مشروعيته. ومعني ذلك أن وضع دستور. بمشاركة أعضاء في البرلمان سوف يزيد الأمر تعقيدا. وإذا كنا نرغب في تحصين الدستور من كل شئ وأي شئ يتسبب في إعادتنا إلي المربع.. صفر.. فإننا يجب أن نضع في اعتبارنا أن قضية الطعن في قانون الانتخابات قد تنطوي علي خطر محدق يصعب تداركه، كما تقول المستشارة تهاني الجبالي. وهذه الهواجس والمخاوف التي يشعر بها الكثيرون تجاه طريقة وضع الدستور لها ما يبررها بعد شهور من التصريحات المتطرفة علي لسان شخصيات تنتمي إلي الأغلبية البرلمانية التي تجعلنا نقتنع بأن قضايا ومبادئ مثل المواطنة وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والإبداع الأدبي والفني قد تتعرض للخنق والحصار وأفدح الأخطار إذا ما أطلقت أيدي هذه الأغلبية لكي تحتكر وضع الدستور. كما ظهرت أخطار في الآونة الأخيرة تجعلنا نشعر بالخطر الذي يهدد استقلال القضاء والرقابة الشعبية والمساءلة السياسية. وفي اعتقادي ان الجمعية التأسيسية لكي تكون معبرة عن جميع ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، فإنها يجب أن تضم فقهاء دستوريين وممثلي الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس الشعب والنقابات المهنية وائتلافات الشباب والنساء من المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعات والاتحاد العام للعمال واتحادات الفلاحين والهيئات القضائية واتحاد الصناعات واتحاد الغرف التجارية ونقابة أصحاب المعاشات. وهناك مشروع قانون الجمعية التأسيسية المنتخبة الذي تقدم به أعضاء في مجلس الشعب هم: عبدالله محمد المغازي وماريان ملاك وشريف محمد زهران وينص علي أن تتكون الجمعية التأسيسية من مائة عضو يتم انتخابهم من خارج مجلسي الشعب والشوري وقواه السياسية والنقابية والمهنية والدينية والثقافية. كما ينص المشروع علي ألا يقل تمثيل المرأة والشباب دون سن الخامسة والثلاثين والمسيحيين عن نسبة عشرة في المائة لكل فئة من الفئات الثلاث المذكورة. ويطالب مقدمو هذا المشروع بأن يتم انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية ممن ترشحهم الجهات الآتية: النقابات المهنية والعمالية والفلاحية، والجمعيات العمومية للهيئات القضائية والأحزاب السياسية وممثلو الاتحادات والجمعيات ذات النفع العام والهيئات والأجهزة والمجالس الرقابية والقومية والجامعات والمراكز البحثية واتحادات الكتاب والأدباء والفنانين.. والمصريون في الخارج. .. تلك هي وسيلة وضع دستور يمثل كل أطياف المجتمع وعلي أساس التوافق الوطني، ومن أجل تحقيق أهداف ثورة 52 يناير، وقيام الدولة علي أساس حقوق المواطنة، وارتكاز النظام السياسي علي احترام حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وإدارة الاقتصاد القومي علي أساس العدالة الاجتماعية في ظل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. كلمة السر: وضع الدستور ليس مهمة البرلمان. نقلا عن صحيفة الاخبار