توصل المجتمعون في لقاء الحوار الوطني الذي انعقد في البحرين في وقت سابق من العامالماضي، إلى مجموعة من القرارات والمقترحات الهادفة إلى تطوير قانون ممارسة الحق السياسي، وتنظيم العلاقة ما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإعطاء الأخيرة دوراً أكبر في النظام السياسي. وما نود التركيزعليه هنا هو تلك المقترحات الخاصة بقانون مباشرة الحق السياسي، وبمعنى آخر الشروط الواجب توافرها في من يترشح لعضوية مجلس النواب المنتخب. من هذه الشروط، شرط أثار ولا يزال يثير الجدل ما بين موافق ومعارض، ونعني به شرط حصول المترشح على مؤهل جامعي، وذلك خلافاً لنص المادة 11 من الفصل الثاني للدستور الحالي، والذي لا يحدد المستوى التعليمي للمترشح، ويكتفي بشرط إجادته للغة العربية قراءة وكتابة. أي أن النص الدستوري المذكور، إذا حاولنا قراءته بصيغة أخرى، يشترط تخرج المترشح من صفوف محو الأمية فحسب. في العديد من المؤتمرات واللقاءات الفكرية المغلقة، مثل اجتماع منتدى التنمية الخليجي الذي عقد في البحرين في عام 2010 (المنتدى نقل اجتماعاته هذا العام إلى الشقيقة قطر للمرة الأولى منذ 10 سنوات، بقرار داخلي من المتعاطفين مع "الربيع") وكان موضوعه وقتذاك كيفية تطوير مجالس الشورى والنواب في دول مجلس التعاون، قلنا إن تقدم هذه المجالس وتمكينها من لعب الدور المنوط بها، تشريعاً ومراقبة واستجواباً، بكفاءة واقتدار يستلزم وضع شروط صارمة لمن يريد الفوز بأحد مقاعدها، بل أضفنا أن مجالس الشورى المعينة يجب أيضاً أن يُعاد النظر في مؤهلات وخبرات من يدخلونها، إذا أردنا فعلاً أن تستقيم الأمور. ومما شددنا عليه هو شرط حصول عضو البرلمان، سواء أكان منتخباً أو معيناً، على شهادة علمية تخصصية، تمكنه من تحمل مسؤولياته كمشرع، والولوج باقتدار في شؤون الدفاع والعلاقات الخارجية والاستراتيجيات، وقضايا الموازنة الحكومية والتخطيط والتنمية، وغيرها من الأمور المتعلقة بحاضر الوطن ومستقبل أجياله. وقد انطلقنا في كل هذا من حقيقة أن شرطي المواطنة وإجادة اللغة العربية لم يعدا كافيين في عصرنا لمن يريد مواجهة الاستحقاقات الكثيرة للوطن والمواطن في زمن العولمة الراهن. وأضفنا: "تخيلوا الوضع حينما يكون نائب الشعب المكلف بالتشريع والدفاع عن مصالحه ومستقبل أجياله مجرد قارىء عداد، أو محصل فواتير، أو مؤذن جامع أو متخصصاً في الطب الشعبي، أو حفّار قبور (مع احترامنا لأصحاب هذه المهن جميعها)، مثلما أفرزت نتائج بعض الانتخابات النيابية التي جرت في البحرين منذ انطلاق مشروع جلالة الملك قبل أكثر من عشر سنوات. وبطبيعة الحال، وكما توقعنا، انبرى لنا البعض محتجاً، ومهاجماً، ومذكراً بأن كبرى ديمقراطيات العالم أجازت للجميع حق الترشح للمقاعد البرلمانية دون قيود أو شروط تتعلق بالمؤهلات العلمية، وذلك من باب العدالة والمساواة بين المواطنين. فكان ردنا: "ياجماعة الخير .. نحن لم نطالب بشروط تعجيزية كأن يحمل المترشح شهادات الماجستير والدكتوراه، وإنما نتمنى أن يكون حاملاً درجة جامعية دنيا، ليس من الجامعات الأجنبية المرموقة، وإنما من جامعة محلية، أو عربية معترف بها". اليوم يعاد طرح الموضوع مجدداً، ليس داخل الندوات المغلقة وإنما من فوق منصة البرلمان وعلى صفحات الجرائد. على أن الشد والجذب حوله لا يزال قائماً ما بين فريق يريد المضي قدماً نحو آفاق جديدة من العمل البرلماني الحصيف والمسؤول والمثمر، وفريق آخر لايهمه سوى تعزيزمصالحه الشخصية الضيقة عبر الاستفادة القصوى من امتيازات المقعد النيابي. ولأن الفريق الأخير أدرك أن حظوظه في دخول البرلمان ستكون معدومة، إذا تم الأخذ بشرط المؤهل الجامعي المقترح، فإن قاومه بضراوة، ووقف له بالمرصاد، وأصر أن يكون المؤهل الدراسي الأدنى للمترشح هو الثانوية العامة! وشرط شهادة الثانوية العامة يمكن أن يكون مقبولاً في بعض المجتمعات العربية التي تصل فيها نسبة الأمية إلى ما فوق 60 بالمئة، لكنه غير مقبول في مجتمع كالمجتمع البحريني الذي نجح، بشهادة منظمة اليونسكو، في احتلال المركز الأول عربياً على صعيد محو الأمية، فباتت نسبته لا تتجاوز 4 بالمئة. هذا فضلاً عن أن البحرين تزخر بالكفاءات النادرة، ويحمل أبناؤها وبناتها أعلى الشهادات من أرقى جامعات العالم في مختلف التخصصات العلمية، وغير ذلك مما هو نتاج طبيعي لتدشين التعليم النظامي للجنسين في البلاد مع بواكير القرن العشرين حينما تحولت البحرين إلى مقصد لكل الأشقاء الخليجيين للدراسة والنهل من المعارف والعلوم. الغريب، في سياق موضوعنا هذا، أن المؤسسات العامة والأهلية تشترط في من يتقدم لشغل وظائفها العليا أوالمتوسطة حصوله على مؤهل علمي مناسب أو سنوات معينة من الخبرة في مجال من المجالات، لكن حينما يتعلق الأمر بوظيفة المشرع والمخطط لحاضر ومستقبل الوطن، يتوارى مثل ذلك الشرط، وينبري البعض لمقاومته تحت حجج واهية لا تصمد لحظة واحدة، وكأنما عمل المؤسسة التشريعية أقل شأناً من عمل المؤسسات الحكومية والتجارية! إن غياب شروط صارمة لمباشرة الحق السياسي، سمح للكثيرين ممن لم يُؤتوا من العلم إلا قليلاً، ولا يحملون من الشهادات سوى شهادات ميلادهم، أن ينحرفوا عن واجباتهم البرلمانية الأصلية في التشريع ومراقبة عمل السلطة التنفيذية ومساءلة وزرائها والحفاظ على المال العام، ويتوجهوا بدلاً من ذلك نحو القيام بعمل النائب البلدي. وهكذا صرنا نراهم يصرفون وقت البرلمان الثمين في قضايا ليست من اختصاصاتهم مثل رصف الطرق، وتمديد خدمات المجاري، وإقامة الحدائق والجوامع، والحجر على السياحة والثقافة بحجة المحافظة على الآداب العامة. لقد تنبهت دول كثيرة في وقت مبكر إلى ما قد تحمله البرلمانات المنتخبة إلى منصة التشريع من نماذج لا تعرف مسؤولياتها بسبب تواضع قدراتها، فلجأت إلى إنشاء الغرفة البرلمانية المكملة التي يُعين فيها ذوو الاختصاص والخبرة. وبغض النظر عن اسم هذه الغرفة، أو موقعها في السلطة التشريعية، أو طريقة اختيار أعضائها، أو غير ذلك مما تتفاوت فيها الدول بحسب تاريخها الديمقراطي، فإن الثابت هو أنها استطاعت أن تحدث التوازن المطلوب. نقلا عن صحيفة الاتحاد