ما يحدث في الساحة الفلسطينية ليس فقط خلافات وإشكالات بين سلطتين مختلفتين أيديولوجياً وسياسياً وتنظيمياً فحسب، بل أزمة صعبة ومعقدة تخص كل فلسطيني يغار على قضيته بعد أن بات مصيره وحقوقه الوطنية الثابتة في خطر شديد. والفصيلان الفلسطينيان الكبيران، "فتح" و"حماس"، حركتان تريدان التحرر من الاحتلال، لكن السبل تفرقت بهما في اختيار وسائل هذا التحرير، وفي عملية إدارة كل منهما لبرنامجه ضمن الظروف المتاحة وما يراه مناسباً. واقع الحال في منظمة التحرير الفلسطينية يحكي عن افتقارها للإجماع الوطني الذي انقسم بحدة منذ عام 1974 جراء التسوية السياسية، حيث قادت "الجبهة الشعبية"، في مواجهة تحالف "فتح" و"الصاعقة" و"الجبهة الديمقراطية"، ما سمي "جبهة الرفض". وبغض النظر عن المسميات ومن كان يقود فريق الرفض أو فريق التسوية، لم يكن الخلاف بين الفريقين على الأسلوب، أي بين نهجي "المفاوضات" و"المقاومة" (الشكل وطريقة الوصول إلى الهدف)، بل على الهدف ذاته، وعما إذا كان هو "التحرير" أم "الدولة". وفي موضوع شبيه أيضاً، انطلقت جولات عديدة من الحوار بين "فتح" و"حماس" مع تأسيس الحركة الإسلامية عام 1987، طرحت فيها "حماس" آنذاك مطلبها الأساسي والمتمثل بالحصول على 40 في المئة من مقاعد المجلس الوطني. ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى، حالت الأوضاع دون استقطاب "حماس" إلى حضن "القيادة الموحدة للانتفاضة". اليوم، ومع ما بات يسمى "الربيع العربي" متوازياً مع الفشل الكبير لما يسمى "عملية السلام"، مقترناً مع "ضعف المقاومة"، تعاد صياغة المعادلة من جديد، متواكبة مع توقيع اتفاق المصالحة الوطنية في الرابع من مايو الماضي، وفي تأكيد الالتزام بتطبيقه في الاجتماعات التاريخية في القاهرة (18 و20 و22 ديسمبر) حيث ساهم كل ما سبق وغيره في بلورة مصلحة مشتركة لكل من "فتح" و"حماس" بالدفع نحو المصالحة سعياً لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية. من هنا، قررت "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الانضواء في "الإطار القيادي المؤقت للمنظمة" حيث أعلن عن ولادته بعد طول انتظار، والشروع في وضع مقترحات لتفعيل دور المنظمة، وإعادة هيكلتها، حيث جرى توزيع مقترح على الأمناء العامين للفصائل حول قانون انتخابات منظمة التحرير، على أن تدرسه الفصائل وتقدم ردها قبل منتصف الشهر الجاري، مع التأكيد على كون "المنظمة" الوعاء الوطني الذي يضم كل القوى والاتجاهات والشرائح الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، مع إغراء الفصائل جميعها بأنه بعد تشكيل المجلس الوطني الجديد ستكون هناك مشاركة مباشرة من كل الفصائل في أطره القيادية. ورغم كل التطور الجميل السابق، تؤشر الوقائع إلى أنه رغم وجود عدة فصائل معروفة فاعلة بشكل أو بآخر، فإن كلمة الفصل واقعياً (وأيضاً في إطار خشية الفصائل) ستكون لحركتي "فتح" و"حماس"، بمعنى استبدال حالة الانقسام السائدة منذ 2007 بحالة "اقتسام". وإن كنت شخصياً أستطيع فهم حالة الاقتسام (وربما الاستئثار) المتوقعة بين الحركتين لكعكة منظمة التحرير، فإنه من الضروري التأكيد على وجوب إشراك الآخرين، حتى تكون الانطلاقة الجديدة للمنظمة بمثابة بداية حقيقية لمرحلة جديدة من لم الشمل وترتيب البيت الفلسطيني. والمأمول أن دخول حركتي " حماس" و"الجهاد" إلى اللجنة القيادية العليا المؤقتة للمنظمة، سيعطي دفعة مهمة لمؤسسات المنظمة ويعمق المصالحة ويعزز وحدة الشعب الفلسطيني على كافة المستويات، خاصة مع استمرار حرب إسرائيل المفتوحة على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية (وبالذات في القدس) وقطاع غزة، دون أن تجد من المجتمع الدولي الإرادة الكافية لوقف هذه الاستباحة المباشرة لحياة الفلسطينيين وأرضهم. وإن كنا لا نرغب بأن نكون من المتشائمين، مثلما لا نرغب في إعطاء الخطوات الأخيرة على طريق إنهاء الانقسام قيمة أكبر مما تستحق، فإننا نأمل (مع آخرين) أن تكون المصالحة خطوة ارتكازية في طريق بناء وترسيخ الدولة الفلسطينية المستقلة، مثلما نأمل في تلاشي الخوف من أن يكون مصير الاجتماعات الحالية كسابقاتها (مجرد ديكور). فعلى صعيد الإفراج عن المعتقلين، مثلاً، ما زالت المناكفات بين "فتح" و"حماس" مستمرة، سواء عبر مزاعم متبادلة عن التعذيب أو الاستدعاءات للتحقيق. ورغم أننا لسنا من الداعين لجلد الذات، عبر الدعوة إلى إجراء مراجعة نقدية شاملة للحركتين اللتين، في ظل انقسامهما، زاد التغول الاستيطاني (الاستعماري) في القدسالشرقية والضفة، فإن الاتفاق على برنامج سياسي للمرحلة المقبلة، يحدد ما هو المطلوب بدقة ويعيد التأكيد على استراتيجية مشتركة للنضال الوطني الفلسطيني، هو السبيل الحقيقي لتأكيد حسن النية لدى الحركتين للخروج من الانقسام وليس الاكتفاء بمجرد إدارة الانقسام، خاصة وأن كلا الحركتين لم تعلنا تغيراً في مواقفهما من الملفات الرئيسية (مثلا إعادة بناء الأجهزة الأمنية وكيفية تعاملها وتنسيقها مع قوات الاحتلال) الأمر الذي يستعيد كوابيس سياسات سابقة لدى كل من "فتح" و"حماس" التي قادت في الماضي إلى الاقتتال والانقسام. وإن كنت أعلنت أنني يمكن أن أفهم العوامل الموضوعية والذاتية الدافعة إلى الاقتسام، فإن المطلوب تكثيف المساعي على درب تأسيس شراكة وطنية ومجتمعية واسعة، شراكة تضمن وتكفل كافة أشكال البناء، وصولاً لإعادة بناء الإنسان الفلسطيني ومؤسساته الشرعية. فالعقلية الاحتكارية التي قادت في مرحلة معينة إلى الممارسات الإقصائية مركزة على نهج المحاصصة السابقة، فرضت تداعيات خطيرة على الشعب الفلسطيني وقضاياه، كما أن الخوف يكمن في أن يتحول إنهاء الانقسام إلى مجرد "هدنة" بين "حربين" مع استمرار بقاء جوهر المشكلة: سلطتان الأولى في الضفة والثانية في القطاع، فيصبح الاقتسام الذي قبلنا به على مضض اقتساماً للصلاحيات والنفوذ يعزز الانقسام فعلياً ولو دون صراع إعلامي مكشوف. وإذا كان الاقتسام مرحلة، مجرد مرحلة قصيرة الأجل، فليكن. أما إن كان بديلا عن المصالحة التي يريدها الشعب الفلسطيني، أي تلك التي تفضي إلى شراكة حقيقية على أسس ديمقراطية، تزيد الموقف الفلسطيني قوة في مواجهة الاحتلال، فإن ما سنشهده عندئذ سيكون بمثابة عملية إغلاق للآفاق المستقبلية الواعدة وطنياً، مع تكريس شيطاني لمساع تعزز الاستعمار (الاستيطان) والتهويد من خلال "الاقتسام" المستجد، مجرد مرحلة لتكريس "الانقسام" القديم الجديد وليس مرحلة تفضي إلى المشاركة الوطنية الديمقراطية من خلال إشراك كل الفصائل والقوى التي تثبت وجودها من خلال صناديق الاقتراع وليس من خلال الادعاءات الجوفاء بالوجود والفاعلية. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية