وأخيراً عين العاهل المغربي أعضاء الحكومة الجديدة التي يترأسها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبدالإله بنكيران، وتتكون الحكومة الجديدة من 31 وزيراً من بينهم سبعة وزراء منتدبين وامرأة واحدة من العدالة والتنمية. ويشكل هذا الحدث لحظة تاريخية في السياق السياسي المغربي الذي تأسس لأول مرة في تاريخ المغرب بجهاز تنفيذي نابع من إرادة الشعب وتمثل مقولة الفلاسفة المشهودة: الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، بمعنى أن الجهاز التنفيذي يجب أن ينبع من صناديق الاقتراع حيث يُعز فيه المرشح السياسي أو يهان. وهذه الحكومة تطبعها خصائص مميزة نذكر من أهمها: - أنها نتيجة للربيع العربي الذي وصلت تذبذباته إلى المغرب، ولكن هذا البلد كان مهيأ لاحتواء تداعياته السلبية بسبب الميثاق التعاقدي الذي شرحنا أصوله وقواعده مراراً في صفحات جريدة "الاتحاد". فالثقة كانت موجودة بين المؤسسات، والأحزاب عملت لعقود داخل المجال السياسي والمجال العمومي، واكتملت اللبنات بوصول أكبر الأحزاب التي لم تذق بعد حلاوة ومرارة تحمل عبء التسيير الحكومي وذات اللون الإسلامي المعتدل. - ما كان ليكتب لهذا المسلسل النجاح لولا الحس الاستباقي الذي يتميز به ملك المغرب، إذ نادى بدستور من الجيل الرابع تعدى عشرات المرات مطالب الأحزاب السياسية مجتمعة، وفي إطار استراتيجية محكمة تهدف إلى الحفاظ على السلم الاجتماعي والانتقال بالآليات الميثاقية التعاقدية داخل المجال السياسي إلى درجة ديمقراطية أعلى. والعقلانية الاستراتيجية تجد مكانها في الاستثناء المغربي، ويخطئ البعض عندما يظن أن الاستراتيجية تستخدم فقط في المجالين العسكري والأمني وتوظيف عناصر القوة التي يملكها البلد، بل إنها تستخدم في السياسة ما دامت في الجانبين معاً تسعى كما يقول "هاري آر يارغر" لحساب الأهداف والمفاهيم والموارد ضمن حدود مقبولة للمخاطرة، لخلق نتائج ذات مزايا أفضل مما كان يمكن أن تكون عليه الأمور لو تركت للمصادفة أو تحت أيدي أطراف أخرى، بمعنى أن الاستراتيجية السياسية داخل المجال السياسي هي فن وعلم تطوير واستخدام القوى الممكنة لما فيه مصلحة البلاد والعباد، ولذا فقد أخطأ مثلاً الرئيس السوري في استراتيجيته عندما اعتمد القمع الأمني كسلاح لمواجهة شعبه، بمعنى أنه كان يفتقر لدليل سياسي لبلوغ ما كان يتمناه شعبه من عالم السياسة، فكما أن الاستراتيجية العسكرية هي صياغة بيئة للعبقريات النادرة، حيث يتوصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم إلى حلول عظيمة لقضايا معقدة بشأن السياسة الخارجية والحرب، فإن الاستراتيجية السياسية هي عملية إرضاء وتجسيد مطالب الشعوب الاجتماعية وتحويلها إلى مطالب سياسية لمعالجتها من قبل ساسة عباقرة، وقد افتقد النظام السوري إلى عبقرية سياسية كان بإمكانها أن تفتح المجال السياسي على الفاعلين السياسيين المختلفين وإدماجهم داخل اللعبة السياسية بطريقة ديمقراطية، وكان النظام سيكون هو الرابح الأول من هذه الاستراتيجية بدل أن يذوق شعبه للأسف مرارة الحمق السياسي الأعمى. - أنه لأول مرة في تاريخ المغرب، يصل حزب سياسي ذو لون إسلامي إلى الحكومة، وهذا يعني أن المجال السياسي أصبح مكتملاً كما بإمكان المجال الحزبي أن يأخذ مكانه في مصاف التموقعات والتكتلات الانتمائية الثنائية أو الثلاثية، ليبتعد كل الابتعاد عن البلقنة الحزبية التي تخسف بالبرامج السياسية وتجعل الناخب في حيرة من أمره. في سنة 2006 نشرت كتاباً بالفرنسية عنونته على الشكل التالي "السلطوية وآليات الانتقال الديمقراطي في دول المغرب العربي"، وبعد دراسة مقارنة بين الأحزاب المغاربية والغربية، ناديت في آخر الكتاب متحدثاً عن المجال السياسي المغربي بضرورة خلق تكتلات ثنائية أو ثلاثية يكون في يمينها حزب "الاستقلال" مع حزب "العدالة والتنمية" وفي يسارها الأحزاب الاشتراكية وأحزاب المعارضة ذات اللون اليساري وفي الوسط تتموقع أحزاب ليبرالية بإمكانها أن تنحاز إما إلى اليمين وإما إلى اليسار، وهذا مبدأ معروف لأن حزب الوسط هو حزب يقبل التموقع يميناً أو يساراً، وكثير ممن قرأ أو سمع هذا الكلام سخر من إمكان حدوثه في المغرب المعاصر، وكانت الكلمات جارحة في تلك الفترة بين بعض أفراد حزب "الاستقلال" وحزب "العدالة والتنمية" خاصة في المجالس البلدية، ولكنني كنت أجيب بأن منطق البرنامج الحزبي هو الذي يحكم وليس منطق البشر، وحزب "الاستقلال" حزب محافظ وبُناته من علماء القرويين وأعضاء جيش المقاومة والتحرير الذين جاهدوا في سبيل استقلال المغرب، وبين الحزبين أكثر من عامل جامع وبإمكانهما أن يحكما سويّاً وهو ما يقع اليوم، ولو استندنا إلى المرجعية الفردية لما اجتمع شتات حزب واحد. إن الحكومة الجديدة مطالبة بتنزيل محكم للدستور الجديد ولبرنامجها الانتخابي، وعليها أن تعيد الثقة للمواطن المغربي في كل مؤسسات الدولة بما فيها الأحزاب، وعلى التحالف الحكومي أن يعمل يداً بيد وفي انسجام تام لأن التحديات والملفات المطروحة صعبة جدّاً وتهم المجال الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والتعليمي في ظل بيئة اقتصادية وسياسية إقليمية وجهوية ودولية معقدة. كما أن على حكومة بنكيران إضافة إلى حل المشاكل الآنية، صياغة استراتيجية سياسية بعيدة النظر لن تظهر نتائجها في المراحل الأولية ولكنها ستظهر في النجاح النهائي للعمل بأكمله، وعلى رأس هذه الاستراتيجية إصلاح الشأن الحزبي برمته وإن كان متقدماً على جل الدول العربية المجاورة. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية