سبق لنا كتابة بعض هذه الآراء، ولكن كان ذلك قبل ثورة 25 يناير التي يفترض أنها أزالت كل الركام الضار من الأفكار والفتاوي المتعصبة المنسوبة إلى الاسلام زورا وبهتانا، لأنها ثورة كل الشعب المصري باختلاف طبقاته وعقائده ومذاهبه، ولذا فقد تجد اجتهاداتنا الآن أذانا صاغية، وقلوبا واعية، في بداية حوار وطني موسع حول القانون الموحد المقترح لبناء دور العبادة. هذه السطور تتناول المشكلات التي يعانيها المواطن القبطي في مصر لأسباب موروثة، تعود في رأي البعض إلى بدايات النظام السياسي الذي أقامه الفاتحون المسلمون في مصر، وغيرها من البلدان المفتوحة، ونخص بالذات مشكلات بناء الكنائس، ودعوة بعض الآراء المنفلته بين وقت وآخر إلى إعادة فرض الجزية على غير المسلمين مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية، فضلا عن الغبن في تولي الوظائف العامة الكبرى. وتتجسد مشكلة بناء الكنائس في مصر فيما يسمى الخط الهمايوني، وهو قانون عثماني يحظر بناء كنائس جديدة أو إصلاح القائم من الكنائس، إلا بمرسوم من صاحب السلطة السيادية، وذلك تطبيقا لما يعرف في التاريخ الإسلامي باسم العهدة العمرية، أي نص العهد الذي قطعه على المسلمين الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب( رضي الله عنه) لأهل القدس، وطبقا لهذا النص فإن المسلمين ملزمون بحماية الكنائس القائمة، ومقتنياتها، ولكن لايسمح ببناء كنائس جديدة، لكن مصر الإسلامية كانت هي أول من أدرك أن هذه العهدة العمرية ليست تشريعا أبديا، وأنها إما مقيدة زمانا، أو مكانا، لذا أفتى فقيه مصر الكبير الليث بن سعد بتأييد من قاضي القضاة وقتها عبدالله بن لهيعة للوالي موسى بن عيسى بإعادة بناء كنائس قبطية كان الوالي السابق المتعصب موسي بن مصعب قد هدمها، بحجة أنها كنائس مستحدثة، وكان ذلك في خلافة المأمون العباسي، وقال الليث بن سعد وعبدالله بن لهيعة: إن بناء كنائس جديدة هو جزء من عمران البلاد، وصلاح العباد، ولمن لا يعلم فإن الإمام الليث بن سعد هو الفقيه الذي وصفه الإمام الشافعي بأنه أفقه من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا به( يراجع د. حسن إبراهيم حسن.. تاريخ الإسلام السياسي، الجزء الثاني)، وهو الذي يعرفه العامة في مصر باسم الإمام الليثي. الدلالة التي نريد إبرازها من هذه الفتوي لا تنحصر فقط في وجود الأساس الفقهي الاسلامي لحل مشكلة بناء الكنائس في مصر، لكن أيضا وهذا هو الأهم تمتد هذه الدلالة لتثبت أن الخط الهمايوني وممارسات المتعصبين من مواطنين ومسئولين مصريين باسم الاسلام ليست تعبيرا عن التدين، والعيش المشترك على الأرض المصرية، بقدر ما هي تعبير عن التقاليد العثمانية التي جاءت من بيئات مختلفة، وتعززت بالصراع بين الدولة العثمانية وأوروبا المسيحية، خاصة بعد أن فتح العثمانيون القسطنطينية، واحتلوا البلقان، وهددوا أسوار فيينا. ومن اللافت للنظر أن فتوى الامام الليث بن سعد بشرعية بناء الكنائس المستحدثة، ارتبطت تاريخيا بالاقتراب من مفهوم المواطنة في مصر الإسلامية، ففي حوالي هذا الوقت قرر المعتصم (خليفة المأمون) إسقاط العرب جميعا في الولايات من ديوان العطاء، أي حرمانهم من المزايا المالية التي يحصلون عليها من الدولة، بوصفهم عربا ومسلمين، والتي كان يحرم منها بقية الرعية، وذلك نظرا لاعتماده على الأتراك في جيوشه، وأدى ذلك إلى إلغاء آخر مظهر للتمييز بين العرب وغيرهم من المسلمين أو غير المسلمين في المعاملة المالية من جانب الدولة، ففتح الباب للاندماج بين الجميع وأصبحت الطبقة المميزة هي الأتراك ثم المماليك، وبقي الجميع تحتهم متساوين مسلمين ومسيحيين ويهودا، وكانت مصر أسبق الولايات الإسلامية في تحقيق هذا الاندماج، للأسباب التي يجملها المفكر الراحل جمال حمدان في تعبيره المفضل شخصية مصر الماصة والمذيبة للتناقضات الكبرى بين مواطنيها، مع ملاحظة أن بلدانا كثيرة حولنا لم يتيسر لها بعد تحقيق هذا الاندماج بالكامل. وبما أن الشئ بالشئ يذكر، فإن مسألة الجزية مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية، التي يعتقد بعض المتشددين أنها أصل من أصول التدين الإسلامي، أو أصل من أصول النظام السياسي في الإسلام، ليست كذلك على الاطلاق، إذ أن الخليفة عمر بن الخطاب نفسه حسب تاريخ الطبري والبلاذري هو الذي أقر واستحسن إسقاط الجزية عن المسيحيين الجراجمة ( أسلاف الموارنة الحاليين) عندما شاركوا في القتال في صف الوالي المسلم حبيب بن مسلمة الفهري، وكذلك الأمر مع المسيحيين الذين انخرطوا في جيش سراقة بن عمرو في معركة تسمى معركة الباب، وحدث ذلك بطبيعة الأمر في بدايات الفتح الإسلامي، والدلالة هنا هي أن الاختيار ما بين الجزية، أو الخدمة العسكرية لغير المسلمين هو في الأصل اختيار متروك لغير المسلم، وليست أصلا ملزما للحاكم المسلم. وإذا وضعنا قول الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية من أن إسناد وزارة التنفيذ إلى غير المسلم جائز شرعا، جنبا إلى جنب مع الفتويين سابقتي الذكر، فلن يبقى من الحقوق الدستورية للأقباط شيء ينتقصه الفقه الإسلامي سوى الولاية العامة أي الرئاسة الأولى أو رئاسة الجمهورية، وما في حكمها، وهذه يمكن فهمها ديمقراطيا بوصفها اختيار الأغلبية، مع قصرها على منصب رئيس الدولة، لذا كانت مصر أيضا أسبق الدول الإسلامية في تولية غير مسلم منصب رئيس الوزراء (نوبار باشا، وبطرس غالي باشا). الهدف من هذا التنقيب في التاريخ هو الرد على المتعصبين بمنطقهم، واثبات أن الفهم الصحيح للإسلام يكفل مبدأ المساواة الكاملة في المواطنة، بجميع مقتضياته، كما أن الهدف هو نزع أسلحة المتشددين في تيار الإسلام السياسي الذين لم يروا في التاريخ الإسلامي هذه التطبيقات، الصالحة لبناء دولة عصرية ديمقراطية، لا تتعارض في أي من أصولها، أو تطبيقاتها مع وجدانهم الديني. لكن هناك جانبا آخر لمسألة بناء الكنائس، وهو الجانب القانوني وعلاقته بسلطة الدولة. فحين يأخذ بعض المسلمين المتعصبين القانون في أيديهم، ويجعلون من أنفسهم سلطة لتطبيقه اغتصابا لحق الدولة، وفي تكرار مرفوض لأحداث سابقة في أماكن أخرى في مناسبات مماثلة، فإننا نصبح أمام مشهد منقول بحذافيره من جرائم المستوطنين الاسرائيليين الصهاينة، وهو مايعني بكل الأسى أن هؤلاء يرفضون أننا أبناء وطن واحد. ثم كيف يبرر دعاة الفتنة هؤلاء لأنفسهم المطالبة بحق المسلمين المهاجرين في بناء المساجد في الغرب المسيحي، وينكرون حق بناء الكنائس على أبناء الوطن المصريين؟! وكيف يبررون لأنفسهم الغضب الذي اندلع بين صفوفهم عندما أجرت سويسرا استفتاء يمنع بناء المآذن، رغم أنها لم تمنع بناء المساجد ذاتها ؟ هل هو إنفصام في الشخصية ؟! أم هي سياسة الكيل بمكيالين، التي اكتوينا بنيرانها ولانزال من الولاياتالمتحدة وأوروبا حين يتعلق الأمر بالموقف من جرائم إسرائيل؟ إن المطلوب الآن هو جهد منظم وواع ومطرد لتحقيق إجماع وطني لحل هذه المشكلة مرة واحدة والى الأبد، كما يقول المثل الانجليزي. والبداية هي أن يبادر الأزهر الشريف الى مواصلة ضغطه من أجل أصدار قانون دور العبادة الموحد، بعد تأصيله تاريخيا، وتأهيله لمقتضيات العصر، بحيث يصبح هذا الرأي، وهو موقف الأزهر الرسمي، التزاما على كل المنتسبين له، يشرحونه للرأي العام في مختلف المحافل، من خطب الجمع الى وسائل الاعلام الى قاعات الدرس، ثم لتكن هذه المبادرة الأزهرية المنشودة دعوة تنضم إليها كل المؤسسات المعنية بالشأن الإسلامي، ومنها كما ذكرنا دار الافتاء، ومجمع البحوث، والمجلس الأعلى للشئون الاسلامية، والأحزاب الاسلامية المؤمنة بالمواطنة وعند ذلك لن يبقى أمام المتطرفين عذر للتخلف عن الانضمام الى هذا الجهد الفكري والديني والوطني النبيل، وليكن هذا اختبارا عمليا للجميع، إذ سمعنا وقرأنا، أن فكر الاخوان نحو المواطنة، وحقوق الأقباط تحديدا، يسجل تطورا تقدميا، فمنهم من قرر فتح الحزب المدني ذي المرجعية الدينية، لعضوية غير المسلمين، ومنهم من قال إنه لا مانع من تولي غير مسلم رئاسة البلاد، إلا أن الوقت ضيق، والخطر محدق، والاستقطاب حاد بحيث بات من الضروري حسم مسألة القانون الموحد المقترح في أسرع وقت ممكن، والحوار المجتمعي حوله ينبغي أن ينتهي في أسبوعين اعتبارا من يوم الثلاثاء الماضي. لعل الكثيرين يذكرون أن التحرك العملي لإصدار هذا القانون بدأ من المجلس القومي لحقوق الإنسان، وكان أول من تحدث عنه بهذا المعنى علنا الدكتور أحمد كمال أبوالمجد نائب رئيس المجلس، وهو رجل كان على صلة تنظيمية بجماعة الاخوان في مرحلة ما من حياته العامة، ثم انه لايزال قريبا من الاسلاميين، فضلا عن مؤهلاته العلمية والسياسية ومزاياه الشخصية المشهود بها من الجميع، لكن المشروع ظل حبيس الأدراج، وان خرج منها فللبحث فقط في الندوات والمؤتمرات غير الرسمية، وكما نعلم أيضا فإن التفكير فيه بدأ بسبب حادثة مماثلة لحادثة الماريناب الأخيرة في أسوان، والمعني الوحيد الذي يفهم من هذا التعثر هو أن السلطات الرسمية، ترى أن ضمانات النجاح في اصداره لم تكن متوافرة بالقدر الكافي، وتخشى من استغلال الرجعية والتطرف لمثل هذا التحرك في إذكاء الفتنة والاضطراب، لذا تعتبر مطالبة بيت العائلة المصرية في إجتماعه يوم الأثنين الماضي بدعوة كريمة من شيخ الأزهر فرصة ذهبية يجب أن نلتف حولها كلنا لبناء جبهة وطنية تنضم اليها الحكومة نفسها، بعد ما ترى أن الموانع والمخاوف زالت، من أجل الغاء الخط الهمايوني، وإحلال القانون الموحد لدور العبادة محله.. ومن يدري فإذا نجحت الجبهة الوطنية مرة، وفي مثل هذه القضية المصيرية التي للجميع فيها بمن فيهم الحكومة مصلحة حيوية، فقد تكون هذه مقدمة لنجاحات تالية في بقية القضايا الأقل، والأكثر أهمية. سؤال أخير يتبقى: هل صحيح أن الكنيسة الأرثوذكسية ليست متحمسة بما يكفي لصدور قانون دور العبادة الموحدة؟ المعلومات في هذا الشأن قليلة، ولكننا نتمنى ألا يكون ذلك صحيحا، فإذا كان صحيحا، فإننا نتمنى أن تكون تحفظات الكنيسة من النوع الذي يسهل الاتفاق حوله. نقلا عن جريدة الأهرام