"لن نسمح. لن نسمح. لن نسمح بأي أيديولوجية متطرفة... الإسلام في ليبيا هو إسلام وسطي". بهذا التَّعهد دشن رئيس المجلس الانتقالي اللِّيبي مصطفى عبد الجليل دخوله طرابلس (13 سبتمبر 2011) مِن على منصة قلعة السَّراي، حيث كان العقيد يُلقي خطاباته المطولة. قالها عبد الجليل بعد ظهور المخاوف مِن سرقات الثَّورات. ومعلوم مَن هو المتأهب للسَّرقة، إنهم "الإخوان المسلمون" في حالة مصر وسوريا، والسَّلفيون في حالة ليبيا، وليس لديّ علم هل من تنظيم إخواني بالجماهيرية أم لا، لكن المعلن عنه أن هناك سلفيين وقاعديين أيضاً! ومنهم من أفصح عن تراجعه، وتقدم مع الثَّائرين في اقتحام العاصمة. بدا عبد الجليل، منذ تسلمه رئاسة المجلس الانتقالي الليبي، بعد انفجار الثورة، 17 فبراير 2011، متسامحاً عازفاً عن ممارسة الثأر والتشفي، وبالتأكيد ينعكس خطاب الرئيس على سلوك الجماعات المنضوية تحت لواء مجلسه. إضافة إلى أنه شخص مؤهل للقيادة المدنية، درس الحقوق، ومارس القضاء حتى صار للعدل وزيراً. كم يبدو القائلون بأن من سبق أن تسنم مركزاً في الأنظمة السابقة لا يُرجى منه نجاح في الوضع الجديد مجحفين وإقصائيين؛ مع أن الصواب عدم التفريط بمؤهلات بذلت فيها الدولة أموالاً طائلة، تحت قانون سيئ كقانون اجتثاث مثلاً. فالعاملون السابقون، ممن لم يتورطوا بالدماء وبالأدلة القاطعة، مهما كان قربهم من القيادة المنبوذة، هم أهلاً لإدارة المراحل الانتقالية، ومن غير اللائق نبذ من ظل داخل البلاد، ولم يلتحق بالمعارضة، يُنظر إليه على أنه الخائن والمعارضون وحدهم الأوفياء للوطن! نأتي على دعوة رئيس المجلس الانتقالي، وعلى الأرجح الرئيس القادم، المستشار عبد الجليل إلى وسطية الإسلام اللِّيبي، والتي جمعها مع عبارة: إن أصل التَّشريع هو الإسلام، والإسلام دين الدولة الرسمي. أولاً نسأل: ما هي الوسطية، وكيف فُسرت؟ هل هي المنطقة الوسطى بين التساهل بمعنى التفريط والغلو بمعنى الإفراط؟! وبهذا تعرف الوسطية بالاعتدال. إذا كان هذا معناها فمع تسييس وتحزب الدين لا يُرجى الاعتدال، والسبب ليس بالدين، إنما بالسياسة وهي فن الممكن عند المعتدلين، والممكن وغير الممكن عند المغالين. ومثلما هو معروف أن الدين، خارج حدوده العبادية، راية تُرفع وأتباع يطيعون، وللقذافي رفعها مثلما لعبد الجليل. وكم تواجهت رايات كلها ترفع شعار "الله أكبر"! وكم مصاحف رُفعت على أسنة الحِراب! إن الإسلام دين الدولة الرسمي عبارة متداولة في الدساتير، مع أن الدولة كيان اعتباري كيف يكون لها دين؟ فالدين دين الناس، وهي من المفروض أن تحتضن الجميع ولا شأن لها بمَن آمن أو لم يؤمن، فهذا قرآن مبين "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس 99)! ومع ذلك لا اعتراض، في ظروف ليبيا مثلاً، على الإعلان في الدَّستور عن الدين الرسمي، لكن الخوف من التصرف بالعبارة، فيُراد بها تطبيق الشريعة، التي هي في الغالب منها اجتهادات الرجال، لذا تشتت الناس إلى مذاهب ومشارب، فالشريعة المرفوعة لافتةً عليها خلاف عميق بين الفقهاء أنفسهم، شاع بين الأتباع جدلاً عقيماً، وإذا طبقوها، مثلما جاءت، حينها سيصبح الأمل في الديمقراطية حديث خُرافة. بالمقابل لا نرهق أنفسنا في الحديث عن وسطية الدين، لتطبيق سياسي، نعم يكون ذلك في العبادات والمعاملات الشخصية، لكن على مستوى الدولة فما هو إلا مجاملة لطرفين متباعدين، تباعد طرفي السالب والموجب. ففي الطبيعة يمكن التلاقي بينهما عبر الدائرة الكهربائية لتحصل منهما شرارة الضوء، مثلما ابتكرها الأميركي توماس أديسون (ت 1931)، فنفع البشرية جمعاء، وقبلها كان الظلام سائداً. أما في الدولة، ومحاولة الانطلاق إلى الإلحاق بأحفاد أديسون، هل سيكتفي الإسلام السياسي، وهو يصر على أنه الطرف المتحدث باسم الله، حسب الحاكمية، بوسطية تؤدي إلى إضاءة الظلام، مثلما هو مصباح أديسون؟! لا أعتقد. كانت الآية: "وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة: 143) سنداً ودليلاً لدى القائلين بالوسطية على صواب ما ذهبوا إليه، ومنهم القرضاوي، والذي يعده مريدوه وموظفو مؤسساته على أنه رائد هذه الوسطية والمتبني لها، ولا أظن أن للوسطية، وهي قديمة الحضور، رائداً أو مؤسساً ناهيك عمَّا للقرضاوي مِن تراث في التَّشدد، فالرَّجل له في السياسة قبل الفقاهة (راجع: عبد الرَّزاق عيد، سدنة هياكل الوهم يوسف القرضاوي بين التَّسامح والإرهاب). فللحسن البصري (ت 110 ه) دعوة للوسطية: "ديناً وسوطاً لا ديناً سقوطاً ولا ذاهباً فروطاً"(المغلطاي، الواضح المبين). وإذا افترضنا أن البصري لم يقلها، فيكفي أن فقيهاً مثل علاء الدِّين المغلطاي (ت 762ه)، مدرس الحديث في الظَّاهرية بالقاهرة قد نطق بها. أما الذين لا يريدون وسطية في الفقه فيأخذون رأي المفسرين في أن "أُمَّةً وَسَطًا" تعني "خياراً عدولاً"(تفسير الجلالين)، ففسروها بما تبعها "لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". إلا أنه في "فتح الباري..." جاء: "خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا"، بمعنى التَّوسط. ونحت البغداديون الكناية ضد الغلو "خير الأمور أوسطها" (الشَّالجي، موسوعة الكنايات العامية البغدادية)، وسميت واسط لأنها توسطت بين الكوفة والبصرة. فإذا كان الاختلاف على معنى الواضحات يجري هكذا فكيف بما في الشَّريعة وما في تفاسيرها من غامضات! على أية حال، إن الدعوة إلى الوسطية في الدِّين، وحمايته مما يُرفع رايةً فوق الرُّؤوس من أجل السلطة، أجدها قديمة حتى على عصر البصري نفسه، قالها عدي بن زيد (ت 587 ميلادية) بالحيرة من أرض العراق، ولا أظنه يقصد غيرها: نُرقع دنيانا بتمزيقِ ديننا.. فلا دِيننا يبقى ولا ما نُرقع" (شيخو، شعراء النَّصرانية قبل الإسلام). استشهد ابن خلدون (ت 808 ه) بالبيت المذكور، دون أن ينسبه لصاحبه، في فصل "انقلاب الخلافة إلى مُلك" (المقدمة). عسى أن ليبيا توفي بتعهد زعيمها: "لن نسمح، لن نسمح، لن نسمح". ومعلوم ما في "لن" من تحدٍ شديد، ونفي قاطع لما سيقع في المستقبل. أقول: نحو وسطية في الفقه لا في السياسة على قول الأنصار لأبي بكر (ت 13 ه) ليكون الأمر محاصصة: "منكم أمير ومنا أمير" (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي)! وبالتَّالي تغرق السَّفينة، وتجد المتطرفين يتعهدون مِن جانبهم: لن نسمح بغير الشَّريعة قانوناً. قاصدين شريعتهم هم! نقلا عن صحيفة الاتحاد