جذبت ثورة 25 يناير كثيرا من العلماء والخبراء المصريين الذين يعيشون في الولاياتالمتحدة ودول أوربا الى الحضور الي بلدهم بمشاعر مختلفة عن المشاعر التي كانوا يحملونها في زياراتهم السابقة. كانوا يقصرون أيامهم في مصر على الزيارات العائلية والسياحية ولقاء الاصدقاء القدامي، لكنهم هذه المرة جاءوا ليشاركوا بالفكر وبالعمل أيضا. كثير من هؤلاء لهم مكانتهم الكبيرة في البلاد التي يعملون فيها، وقادرون على المساهمة في وضع المشروع الحضاري الذي تحتاجه مصر لتتخلص من دائرة دول العالم الثالث وتنطلق في طريق التقدم كما فعلت دول أخرى كثيرة أصبحت الآن في الصفوف الأولى علميا وصناعيا وقفزت أرقام التصدير والسياحة فيها الي أضعاف ما كانت عليه. وهؤلاء العلماء والخبراء يدعون الي دعم مشروع مدينة زويل العلمية لتكون قاعدة للتقدم العلمي وتجذب العلماء المصريين في الخارج بدلا من هجرة علماء الداخل وفقدان مصر لأكبر ثروة تمتلكها وهي العقول والخبرات التي أصابها اليأس مما كان عليه الحال من اهمال العلم والعلماء وعدم وجود رؤية للمستقبل. هؤلاء العلماء مستعدون للعودة الى مصر والمشاركة في النهضة العلمية اذا وجدوا أن هناك جدية في تحقيق ذلك، ومستعدون للقبول بمرتبات أقل مما يحصلون عليه مقابل أن يقدموا علمهم وخبرتهم لبلدهم. وليس ذلك غريبا. ففي الصين مئات من العلماء والباحثين الصينيين علي أعلى مستوى عالمي، كانوا يعملون بمرتبات فلكية في الولاياتالمتحدة واوربا عادوا الي بلدهم وقبلوا بمرتبات أقل، وعندما قابلت وزير البحث العلمي في بكين قال لي: إنهم يعلمون أننا لا نستطيع أن نعطيهم الأموال والامتيازات التي كانوا يحصلون عليها، ولكنهم جاءوا لأن هذه بلدهم وهؤلاء أهلهم والتقدم العلمي والتكنولوجي للصين يجعلهم يشعرون بالفخر، وهذا المسائل المعنوية مثل الانتماء للوطن أهم من المال والامتيازات المادية. فعلا.. مايهم العلماء في المقام الأول أن يجدوا المناخ الذي يساعد علي البحث والابداع ويشجع كل جديد ويستفيد منه، والمثال في الصين فمراكز البحث العلمي مرتبطة بالمصانع بحيث يتم التجريب والتطوير وتحويل الافكار الجديدة الى منتجات وعدم السماح بوضع نتائج البحث العلمي في الادراج أو على الأرفف.. وبالاضافة الى ذلك كانت لبعضهم ملاحظات ذكية منها مثلا ما قاله أحدهم في احدى الندوات من أنه لاحظ أن معظم من التقي بهم أو قرأ لهم لم يتحدثوا الا عن السلبيات وكأن عيونهم لم تعد قادرة علي رؤية شيء إيجابي علي الاطلاق وكل ما حولهم أخطاء وانحرافات، وهذا شيء يدعو الي الاحباط ويجعل الناس تقول مفيش فايدة مع أن البلد فيه عوامل وامكانات تدعو للتفاؤل، ومن حق المصريين أن يشعروا أن بلدهم تخلف لأسباب معروفة، ولكن هذا التخلف ليس في تكوينه ولا في أبنائه، والموضوعية في تناول القضايا تنقص كثيرا من يتصدرون المشهد الاعلامي في الصحافة والفضائيات، وتنقصهم المقدرة على التوازن والعدل لرؤية السلبيات والايجابيات، ويكفي النظر الي ما فعله المصريون في ثورة 25 يناير وما أنجزوه بعدها من تغييرات كبري كان الحديث عنها نوعا من الأحلام والتمنيات المستحيلة، والذين حققوا ما يراه العالم معجزة في ثورة يناير قادرون بالتأكيد على بناء بلدهم بالديمقراطية الحقيقية، والعدل، وتكافؤ الفرص، احترام العلم والعلماء، على أن يصلوا ببلدهم الي صفوف الدول المتقدمة. وقال واحد من هؤلاء العلماء إنه لم يجد أحدا يقول كلمة طيبة في حق أحد، وأن كل انسان ناجح أصبح هدفا للسهام والتجريح والاغتيال المعنوي وكأن النجاح خطأ أو جريمة مما جعل بعض ذوي المواهب يفضلون الانزواء والابتعاد عن العمل العام لحماية أنفسهم من الاساءات التي يبرع في نسجها من يدعون الشجاعة، وخطورة استمرار هذا المناخ الطارد للكفاءات أن تخلو الساحة للصغار ومحدودي الموهبة والخبرة، واهدار الموهبة والخبرة هو الطريق الى التخلف. واذا كنا نعترف بأن الوضع العلمي في مصر والعالم العربي لا يقارن بأية دولة من الدول ذات الدخل المتوسط، ولا نقول الدول الكبرى، فان الاصلاح ممكن، فلدينا علماء متميزون، ولدينا خبراء، وباحثون، واساتذة جامعات، ولكنهم مبعثرون ومشتتون ولايجدون المجال ولا الامكانات ولا يعملون ضمن منظومة متكاملة في إطار مشروعات علمية جماعية. وهذه هي نقطة البداية للبناء والتقدم. وللدكتور احمد زويل ملحوظة علي من يقول ان التخلف العلمي سببه نقص الموارد ويري ان ذلك لايمكن تصديقه مع مظاهر الثراء والسيارات الفاخرة والمنتجعات والقصور والاسراف في استهلاك السلع الفاخرة المستوردة. والعالم العربي عموما يصنف علي أنه من مناطق العالم غير الفقيرة، ثم إن هناك دولا غير عربية فقيرة في الموارد ومع ذلك أنجزت الكثير في التقدم العلمي والتكنولوجي مما يجعل الحديث عن نقص الموارد تبريرا للاهمال والاسترخاء. هذه هي القضية: مصر الآن قادرة على الانطلاق فقط تحتاج الى الارادة السياسية، والجدية، والتخلي عن عادة الحماس المفاجىء الذي يعقبه نسيان طويل. نقلا عن جريدة الأهرام