مزقت عدة ورقات، قبل أن أكتب هذه السطور، كي أستعين بالهدوء علي الغضب، وبالعقل علي اندفاعات الظنون! فإنني أري أمامي من يدفع بالبلاد إلي طريق وعرة ومستقبل محفوف بالألغام. وأري أمامي من أدمن نفاق السلطة، نظاماً أو حكماً أو مجلساً أعلي، ولا يهمه في سبيل التزلف أن يكون القربان أشلاء وطن. بافتراض حسن النية.. أري أمامي من يمسك بمعول هدم، وهو يحسب أنه يحمل لبنات بناء! أري أمامي كل هؤلاء.. وأنا أطالع نبأ تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية! التعديلات المقترحة هي أسوأ هدية يمكن أن يتلقاها الجيش والشعب والوطن، في مناسبة مرور 001 يوم علي قيام ثورة 52 يناير. الحقيقة أنها عبوة مفخخة مغلفة بغلاف ديمقراطي براق، هو منح حق التصويت لرجال القوات المسلحة والشرطة والمصريين المقيمين بالخارج. يوم الخميس الماضي، عرض مشروع القانون علي مجلس الوزراء، وصدر عن المجلس بيان صحفي يقول إنه وافق علي المشروع، وبعدها بساعات صدر بيان تصحيحي يوضح أن مجلس الوزراء ناقش التعديلات، لكنه لم يتخذ قراراً نهائياً بشأنها. المعلن منذ أسابيع أن التعديلات تتضمن إعطاء حق التصويت للمصريين المقيمين بالخارج، وكان المفهوم ضمناً أن هذا الحق سوف يقتصر إجرائياً علي الاستفتاءات والانتخابات الرئاسية، التي يجوز لأي ناخب أن يدلي بصوته فيها بأي لجنة انتخابية، وكان المعروض سلفاً أن هذا الحق سوف يستحيل عملياً أن يسري علي الانتخابات البرلمانية والمحلية، التي يتعين فيها علي كل ناخب أن يدلي بصوته في لجنته الانتخابية لاختيار من يريد من بين المرشحين في الدائرة التي يوجد بها موطنه الانتخابي. بيد أن التعديلات انطوت علي مفاجأة كبري هي إعطاء حق التصويت أيضاً لرجال القوات المسلحة والشرطة. القانون الساري يحجب هذا الواجب عنهم منذ صدر أول قانون لمباشرة الحقوق السياسية بمرسوم ملكي في عام 5391. ورغم صدور قانون جديد عام 6591 في عهد ثورة يوليو، وإجراء تعديلات عليه في أعوام 6791 و0991 و5002، ظل هذا الواجب مرفوعاً عن رجال القوات المسلحة والشرطة، فلم يتغير نص المادة الأولي من القانون التي تقضي بإعفاء ضباط وأفراد القوات المسلحة الرئيسية والفرعية والإضافية وضباط وأفراد هيئة الشرطة طوال مدة خدمتهم بالقوات المسلحة أو الشرطة من أداء واجب إبداء الرأي في الاستفتاءات والانتخابات. المؤكد أن المشرع لم يكن يقصد حرمان رجال القوات المسلحة والشرطة من حق دستوري، كفله دستور 17 »الذي سقط«، ونصت عليه المادة 26 التي تقول: »للمواطن حق الانتخاب وإبداء الرأي في استفتاء وفقاً لأحكام القانون، ومساهمته في الحياة العامة واجب وطني«. المؤكد أنه لم يكن يفتئت علي حقوقهم كمواطنين، إنما كان يريد أن يسمو بالقوات المسلحة وبرجالها المنوط بهم دستورياً حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، عن الانزلاق إلي معترك السياسة وألاعيبها، وكان يريد أن يبتعد بالشرطة ورجالها المنوط بهم دستورياً كفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين والسهر علي حفظ النظام والأمن العام، عن الدخول في اللعبة الانتخابية، بينما مسئوليتهم هي الوقوف بحياد خارج نطاق اللجان للتأمين وحفظ الأمن. الحقيقة انني أستغرب الدعوة إلي منح حق التصويت لرجال الجيش والشرطة، بل أعتقد أنه لو كان هذا الحق مكفولاً لهم قبل ثورة يناير، لكان الأجدر بنا أن نبحث بجدية في إعفائهم منه بعد قيام الثورة! وأود أن أسأل صاحب الاقتراح الذي لا أعرفه لماذا قفزت هذه الفكرة الشيطانية إلي رأسه في هذا التوقيت بالذات؟! هل هناك فائدة ترجي للشرطة، من إعطاء رجالها حق التصويت في الانتخابات وأقربها انتخابات مجلسي الشعب والشوري في سبتمبر المقبل؟! أليس دخول رجال الشرطة إلي اللجان في مواطنهم الانتخابية للإدلاء بأصواتهم، هو مصدر احتكاك مع باقي الناخبين وأنصار المرشحين، ألن يتهموا بالحق وبالباطل بالتدخل في نزاهة العملية الانتخابية لا سيما إذا كان أحد المرشحين من معارفهم أو أقاربهم؟! هل نريد للشرطة أن تتعافي وأن يستعيد رجالها ثقة الشعب كاملة، أم نريد تجديد الميراث القديم مع انتخابات برلمانية نستشعر لهيبها قبل أن توقد نيرانها؟! الأخطر في رأيي المتواضع.. هو إعطاء رجال الجيش حق التصويت. ربما يدفع صاحب الاقتراح وأنصار التعديل بأن الدول الديمقراطية تسمح لأفراد قواتها المسلحة بالتصويت في الانتخابات، وربما يحاججون بأن الولايات المتحدة »ذات نفسها« تكفل للعسكريين في داخل أراضيها وفي قواعدها المنتشرة في أنحاء العالم بالتصويت في الانتخابات، لا سيما الانتخابات الرئاسية. وربما يسائلون أصحاب الآراء المعارضة وأنا أولهم وهم يظنون أن الذين كفروا بتعديلاتهم سوف يبهتون: هل رجال القوات المسلحة المصرية العريقة أقل شأناً من أفراد الجيش الأمريكي حتي تحرموهم من حق التصويت؟!! وبدوري أسألهم: هل يبتغي هذا التعديل، أي مصلحة، إلا مظنة أو وهم التقرب إلي الجيش ومجلسه الأعلي، بحسبان أنهم سيسعدون بالنزول من مرتبة الحامي للثورة والضامن للعملية السياسية، والراعي لإعادة بناء المؤسسات الديمقراطية، إلي منزلة الطرف المشارك الذي يتجادل وينحاز؟! أظن والبعض من الظن ليس إثماً أن السماح بتصويت رجال القوات المسلحة في الانتخابات البرلمانية والمرجح أن تغلب عليها القوائم الحزبية، سوف يجعل أردنا أم لم نرد التفضيلات بين الأحزاب مثار جدل داخل وحدات القوات المسلحة، وسوف يؤدي علي المدي القريب إلي تغلغل أحزاب وقوي سياسية في صفوف الجيش الذي يجب أن ننأي به وبأفراده عن الانتماءات الحزبية وأن نحرص علي احتفاظهم بالاحتراف والانضباط العسكري الذي تخل به السياسة. الأسوأ أن مشاركة رجال الجيش في التصويت، ربما تدفع ببعض القوي أو الأحزاب عند الخسارة، إلي الادعاء بأن الجيش أصدر أوامره لأفراده بعدم التصويت لها أو لمرشحيها! هذا ينطبق أيضاً علي الانتخابات الرئاسية! ومن يدرينا.. فقد يطالب المرشحون في انتخابات الرئاسة حينئذ بزيارة الوحدات العسكرية للدعاية لأنفسهم وتنظيم مناظرات داخلها، بل قد يدعي أحدهم أو بعضهم بأنه يتعرض للتضييق أو للانحياز ضده! دون مواربة أقول إن الذي يريد أن يعطي رجال القوات المسلحة حق التصويت في الانتخابات، يزج بالجيش زجاً إلي مستنقع السياسة ومفاسدها. أقول إنه يريد أن يحقن المؤسسة العسكرية بفيروسات حزبية، تسري في بنيانها، تخل بتماسكها وتهز صورتها كمؤسسة وطنية، تدافع عن حق الشعب في الاختيار ولا تتدخل في اختياراته، تحمي الديمقراطية والدولة المدنية ولا تتعاطي السياسة. لو لم تكن قواتنا المسلحة فوق الأشخاص والأحزاب، ولو لم تكن العسكرية المصرية تضع الشعب فوق النظام، والمصلحة الوطنية فوق الانحيازات الشخصية، ما كتب لثورة يناير النجاح. هذا البلد يقف علي عمود راسخ، لكنه عمود وحيد، هو القوات المسلحة.. فلا تزعزعوه! * نقلا عن صحيفة الاخبار المصرية