ركز الجهاز الأيديولوجي للنظام التسلطي في مصر خلال ثلاثين عاما مضت علي إخفاء المعلومات وتشويه الوعي الجمعي, وستر واستبعاد الحقائق, وصناعة وترويج بعض الأساطير حول الإنجازات الكاذبة في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة, بينما الواقع الفعلي مترع بالأزمات الممتدة, والتدهور المستمر في السياسة والكفاءات والمهنية في التخطيط والأداء. إن نظرة علي الخطابات السياسية والإعلامية الرسمية تشير إلي الولع الوحشي بترويج مجموعة من الأفكار السطحية والساذجة حول المؤامرات التي تحاك ضد مصر والمصريين, وإن القيادة السياسية العليا السابقة, هي التي تقف ضد المؤامرات التي تستهدفنا وحدنا من دون غيرنا من الأمم لأنها تتمتع بالحكمة والذكاء النادر والاستثنائي, والقدرات والمهارات السياسية غير العادية!!! وهكذا عاشت مصر تدهورا في مكانتها الإقليمية والدولية علي عديد الصعد, بينما الإعلام الديماجوجي يروج أكاذيبه, وفقاعاته اللفظية عن دور مصر وكأن النظام ورئيسه وبطانته هم مصر. نمط من الشخصنة السياسية عن إنجازات وهمية لا توجد إلا في أخيلة صناعها ومروجيها المريضة وهكذا تمت صناعة عالم من الأكاذيب السياسية والإعلامية والفقاعات اللفظية عاشت فيها وداخلها الصفوات المصرية السياسية والمعارضة والأكاديمية, علي نحو أدي إلي شيوع إحساس باللاجدوي من إمكانيات الإصلاح, أو تجديد الدولة والحكم والمعارضة أو التصدي للفساد الهيكلي والنخبوي, أو إشاعة الشفافية وروح ومعايير المساءلة القانونية والسياسية والأخلاقية للمسئولين عن إشاعة الفساد والقمع وترويع وتخويف المصريين لاسيما النشطاء والمثقفين. من أبرز الفقاعات اللفظية التي طرحها النظام وإعلامه الرديء نظرية الأجندات الخارجية والخاصة والقلة المندسة, والقوي الغامضة التي تلعب وتعبث في الظلام وهو ما ينتمي إلي نمط من النظام اللغوي الشعاراتي الفارغ من المضمون والدلالة والمعني, ألا وهو بعض النظريات الأمنية التي تنتمي تاريخيا إلي نظام يوليو1952 التسلطي, وهو الولع الوحشي بنظرية المؤامرة التي شارك فيها بعض القوميين العرب, وغالب الإسلاميين السياسيين والرسميين والدعاة- والاستثناءات محدودة بينهم هذا التصور المؤسس علي أننا نحن من دون خلق الله جميعا أمما ودولا وشعوبا العالم كله المستهدفون بالمؤامرات والأجندات الخارجية, حينا لأن الإسلام مستهدف, وحينا آخر لدورنا القيادي في العالم العربي! وكأن القيادة إرث سياسي تتوارثه الشعوب والأمم والدول جيلا بعد آخر, ونظاما بعد آخر, إلي آخر هذا اللغو السياسي, والثرثرة اللفظية الفارغة! نظريات تآمر الآخرين ضدنا تتناسل وتغير من أقنعتها وألوانها مع الوقت وجوهرها لا يزال كما هو لم يتغير, ولم يقل لنا أحد يوما ما, ما هي هذه المؤامرة, وكيف تم تخطيطها وما هي أطرافها والفاعلون علي مسرحها, وما هي أهدافها إلي آخر هذه الأسئلة البسيطة والدالة لكي يقنعنا بعض رجال النظام التسلطي الذي لايزال مستمرا بهذه المؤامرات التي سينساها النظام وجهاز دعايته الايديولوجي بعد أن تستقر الأمور كما حدث دائما! كان الرئيس السادات يتحدث دائما عن انتفاضات واحتجاجات جيل السبعينيات, ويصفنا بأننا قلة مغرر بهم من أبنائه, واستمرت نظرية التغرير السياسي, والقلة المندسة, بالإضافة إلي نظرية الأجندات الخاصة وأخري هي القلة الحاقدة التي أطلقها ومعه نظام سلفه المخلوع علي كل من يطالب بالعدالة والحرية والمساءلة والتصدي للفساد والعصب الفاسدة الجانحة! ها هو الخطاب القديم المستهلك يستعاد ويكرر حول المؤامرات والقلة المندسة, والشباب النقي البريء, وذلك دون أي صدي أو مصداقية. لو كان هذا الجيل الشاب نقيا وبريئا لاستمر خانعا ومطيعا لأن النقاء والبراءة البلهاء هما سمت السذج والجهلاء وغير الواعين بمصالحهم ومصالح بلادهم! هذا النمط من خطاب المؤامرة والبراءة والنقاء والقلة المندسة هو محاولة للتغطية علي حقائق ما يحدث علي أرض الواقع, وأهداف مطالب الأجيال الجديدة التي تتسع لما هو أكبر من مجرد تغيير في رأس النظام التسلطي إلي تغييرات هيكلية شاملة. إنها محاولة لكسر تماسك قوي الانتفاضة الشعبية الديمقراطية, وتحريض بعض الجماهير البسيطة ولاسيما سكان العشوائيات والبروليتاريا المدنية الرثة, وكأن شباب الانتفاضة يقفون ضد مصالحهم, وتأليب القوي الاجتماعية الميسورة, والأقباط ضد الشباب الجديد بدعوي فتح الطريق أمام فزاعة ثبت أنها تعدو مع آخرين وراء الانتفاضة الشعبية الديمقراطية لاحتوائها ومحاولة وأدها, وذلك لمحاولة إعاقة وإزهاق روح مصر الجديدةالشابة المدنية الساعية للحرية والعدالة وحقوق الإنسان العالمية والدولة الديمقراطية الدستورية الحديثة. من الشيق ملاحظة أن نظرية الأجندات والمؤامرة والقلة المندسة تحولت إلي جزء من طقس السخرية والنزعة المشهدية السياسية والكرنفالية في تظاهرات, واحتجاجات الشباب يوم25 يناير الماضي وما بعد, ولا تزال موضوعا أثيرا للنكات اليومية التي يبدعها الناس هكذا خطاب بائس وعقيم لا يثير سوي السخرية والضحك. نقلا عن صحيفة "الاهرام" المصرية