الثابت أن امكانية وصول عبدالله جول إلي مقعد رئيس تركيا الحادي عشر يشير إلي أن البلاد باتت علي مشارف بدء عصر الجمهورية الثانية وإعلان نهاية عصر الجمهورية الأولي التي أعلن عن قيامها مصطفي كمال أتاتورك يوم29 أكتوبر منذ عام1923 وإلغاء الخلافة بعدها بأربعة أشهر فقط إدراكا منه بأنها لا تستقيم مع مبدأ النظام الجمهوري وإرساء دولة حديثة وتكوين مجتمع حديث اعتمد فيه علي التفريق بين الدين وشئون الدولة عبر وضع مبدأ العلمانية ودخوله حيز التنفيذ مع توطيد حريات العقيدة والضمير للأفراد. واتخذ أتاتورك في سبيل تأسيس الجمهورية الأولي عددا من الخطوات فألغي وزارة الشريعة والأوقاف واستحدث عوضا عنها رئاسة الشئون الدينية ومديرية الأوقاف لتكونا تابعتين لرئاسة الوزراء, كما ألغي نظام المدارس الدينية وأصدر قانون التنظيم القضائي الذي استحدث المحاكم المتعارف عليها دوليا بدلا من المحاكم الشرعية وأزال التكايا والأضرحة الدينية والزوايا إضافة إلي إلغاء تعدد الزوجات وجعل الطلاق من صلاحية المحاكم المختصة فقط وبتعديل أجري في عام1928 أزيلت من الدستور المادة التي تنص علي أن الدين الإسلامي دين الدولة وعلي أثر ذلك وضع في الدستور حكم ينص علي أن تركيا دولة علمانية وذلك في عام1937 ومنذ هذا التاريخ وحتي اليوم استمرت وقائع الجمهورية الأولي التي تحتم مبدأ الفصل بين الدين والدولة. غير أن وصول عبدالله جول المنحدر من خلفية إسلامية وترتدي زوجته "خير النساء الحجاب " إلي منصب رئيس الجمهورية قد يفتح الباب أمام عدة تساؤلات أبرزها أن وجوده في القصر الجمهوري يعني بدء عصر الجمهورية الثانية؟ وهل سيتمكن من تحطيم التابوه العلماني المسيطر علي مقدرات البلاد طوال70 عاما حكم تركيا خلالها عشرة رؤساء جمهوريات من القيادات العلمانية. الأمر المؤكد بحسب آراء المراقبين أن تركيا مقبلة علي مرحلة جديدة في تاريخها السياسي قد تشهد مزيدا من التوتر بين العلمانيين والإسلاميين, وقد تشهد مصالحة طال انتظارها بين الجانبين إذا ما نفذ عبدالله جول التعهدات التي أطلقها في أول تصريح له عقب تقديم أوراق ترشيحه للمنصب الرئاسي حينما أعلن تمسكه بحماية مباديء الجمهورية العلمانية وأنه سيكون رئيسا لجميع الأطياف والفصائل في تركيا, إضافة إلي حماية وترسيخ المباديء الأساسية للجمهورية التركية الواردة في الدستور والمتعلقة بعلمانية الدولة. وبطبيعة الحال لم يفت الخبثاء من المعسكر العلماني الفرصة وأعلنوا صراحة أن ما أتي به جول يمثل أقوالا لا أفعالا معربين عن خشيتهم في كون أقواله ماهي إلا بمثابة المخدر حتي يمتطي مقعد الرئيس, ومن ثم يبدأ تنفيذ مفردات أجندة حزبه صاحب الجذور الإسلامية وفي مقدمتها بالقطع التعامل مع مبدأ الفصل بين الدين والدولة إلي جانب التعامل أيضا مع مسألة الحجاب المحظورة في المرافق الحكومية والجامعات. وعلي الرغم من قناعة الفريق العلماني أن تنفيذ مفردات أجندة حزب العدالة علي الصعيد الاجتماعي ليست بالأمر السهل فإنهم علي قناعة أيضا بأن وصول جول إلي القصر الرئاسي يعني سيطرة الحزب صاحب الجذور الإسلامية علي المشهد السياسي كلية في تركيا بعد أن نجح عبر أربع سنوات مضت في السيطرة علي السلطتين التشريعية والتنفيذية ممثلة في الحكومة وأن هذا الأمر سيسهل لهم كثيرا البدء في تنفيذ مخطط محكم عبر التوافق لتنفيذ ما يصبون إليه خاصة أن منصب رئيس الجمهورية برغم كونه رمزيا فإنه يمتلك صلاحيات واسعة أبرزها تمرير القوانين وتعيين قادة الجيش وأركان القضاء ومجالس الجامعات الأمر الذي يشير بوضوح إلي أنهم حزب العدالة الإسلامي سيبدأون أولا في تغيير البنية الاجتماعية والثقافية لتركيا من خلال فرض الأمر الواقع ومع الوقت يسهل عليهم تحقيق الأهداف دون أن يواجهوا معارضة في المستقبل القريب. غير أن هذا الأمر قد يواجهه بعض الصعوبات أبرزها أن الدستور أورد عدة مواد لا يجوز تغييرها ويتعذر الاقتراح بتعديلها وفي مقدمتها تركيا دولة جمهورية ومن ثم سيصعب الاقتراب من قبل حزب العدالة علي تغيير أسس الجمهورية العلمانية بسهولة. ومهما يكن من أمر فان ما سبق يشير إلي حقيقة واضحة مفادها بدء عصر الجمهورية الثانية, اعتبارا من وصول جول إلي مقعد الرئيس ونهاية عصر الجمهورية الأولي التي استمرت علي مدي70 عاما فشل خلالها النظام الحاكم بعد أن بات عرضة للتخبط وفقدان التوازن ولم يكن ناجحا لعدم تمكنه من دمج وتكامل قيم المجتمع والدين تحديدا داخل هيكل نظام الحكم لاسيما وأن الجمهورية الأولي لم تمتلك القدرة علي حل مشاكلها البنيوية المزمنة باعتبارها كانت ولا تزال تنخر في عظام النظام من الداخل وتدفعه للموت البطيء وهو ما أفقد القائمين علي أمرها ثقة الشارع التركي لأنهم فقدوا القدرة في إدراك التغيرات التي تحيط بهم علي الصعيدين الدولي بشكل عام والاقليمي بصفة خاصة, ومن ثم احتضن الغالبية من الشعب التركي حزب العدالة باعتبارهم أكثر إدراكا للمتغيرات المحيطة وهي القاعدة التي يستند إليها الحزب في إعلان قيام الجمهورية الثانية ذات الطبيعة المغايرة في الغالب للجمهورية الأولي خاصة في الجانب القيمي والسلم الاجتماعي. ومع تسليمنا بهذا الأمر فإن السؤال الذي يطرح نفسه علي الساحة التركية حاليا هو هل ترضي النخبة العلمانية والمؤسسة العسكرية أن تكون السيدة الأولي في تركيا محجبة؟ وهو ما طرحه الكاتب الصحفي بجريدة تركيا اليوم إسماعيل كابان, مشيرا إلي أن الاستراتيجية الذكية من أردوغان ضمنت لحزبه السيطرة علي مقعد رئيس الجمهورية ورئاسة الوزراء في آن واحد معا ليحكم سيطرته علي العملية السياسية التركية بالكامل ولم يتجاهل بطبيعة الحال أن معظم زوجات وزراء حزب العدالة الحاكم محجبات ومن بينهم زوجة أردوغان نفسه وهي سابقة منذ قيام الجمهورية التركية في عام1923, وكذلك زوجة جول أيضا ترتدي الحجاب وسبق لها أن تقدمت بشكوي في عام2004 ضد بلادها في شأن الحجاب أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان إلا أنها سحبتها. وإذا اعتبرنا أن وصول سيدة أولي محجبة أمر مرفوض بالنسبة للدوائر العلمانية وبينها الجيش الذي يري فيه رمزا واضحا علي تدخل الدين في السياسة فلم يبق أمامنا سوي الانتظار.