عاش المصريون محنة قاسية طوال شهر رمضان مع المسلسلات ما بين القتل والدم والجرائم وخرجوا من الشهر الكريم يعانون حالة إحباط مريرة وانقسم أصحاب الرأي كالعادة بين من يرى ان المسلسلات كانت إبداعا خلاقا لم يسبق له مثيل ومن رأى انها كارثة فنية وأخلاقية بكل المقاييس ومازال غبار المعارك يملأ الشاشات ولم نحسم شيئا في القضية هل كانت المسلسلات إبداعا حقيقيا أم انها مشاهد عنف وقتل ليست بعيدة عن الأحداث الدامية التي يشهدها الشارع المصري في مواجهات الدولة والأمن مع الإرهاب؟!.. لم يختلف الأمر كثيرا بعد انتهاء موسم المسلسلات فسرعان مادخلنا موسم الانتخابات البرلمانية.. وكنت أتصور ان أرى جموع الشباب وهي تتصدر المشهد لتؤكد اننا أمام مجتمع ووطن جديد.. كنت أتخيل ان الشباب قادم بفكره ووعيه وأحلامه وان على المجتمع المصري ان يفتح أبوابه لعقول وأفكار وأحلام جديدة ولكن الكارثة انني شاهدت الشاشات وهي مكدسة بأشباح أعرفها بدأت تعيد مسلسلات قديمة يحفظها هذا الشعب مليئة بكل أساليب التحايل والكذب والتضليل. كنت أتصور حزبا سياسيا يمثل شباب ثورة يناير وحزبا آخر يمثل شباب تمرد وثورة يونيو وكل حزب يطرح أفكاره وبرامجه وحزبا نسائيا يعكس إرادة المرأة المصرية العظيمة.. ان ثوار يناير يرفضون ثوار يونيو وكلاهما يعيش حالة رفض للآخر.. وكان السؤال ان كان من حق كل فريق ان يرفض الآخر فأين حوار المستقبل ممثلا في شباب هذا الوطن.. فوجئت بأشباح قديمة تطل علينا بين حزب يرفع صورة عبد الناصر تحت شعار الناصرية وحزب آخر يرفع صورة السادات تحت شعار الساداتية، وبدأ الصراع داميا بالاتهامات والجرائم التي ارتكبها كل نظام، ان عبد الناصر صاحب الهزيمة والسادات فتح الباب لأمريكا وعبد الناصر حمل اشتراكية الفقر والسادات حمل انفتاح العشوائيات والنهب.. وبدأ التراشق والاتهامات التي كانت سببا في تخلف هذا الوطن عشرات السنين، ان عبد الناصر أوقف حشود الإخوان بينما فتح لها السادات كل الأبواب للتخلص من الشيوعيين والناصريين. ان عبد الناصر والسادات في رحاب الله والتاريخ وكل واحد منهما اخطأ وأصاب وليس هذا وقت الحساب في أحداث مضت وانتهت وليس من الحكمة ان نتصارع ونتقاتل على قبور الموتى ولكن الأحق والأجدر ان نتفق على مواجهة الحاضر بكل ما فيه من التحديات.. لقد أدى عبد الناصر دوره في خدمة وطنه وهذا ما فعله السادات وكلاهما الآن في رحاب الله وليس من الحكمة ان ننبش في القبور ونحاكم الموتى.. ليس من الحكمة ان ترتفع صيحات القبور على صيحات شباب يحفر القناة الجديدة وليس من العدل ان نرفع صور ناصر والسادات وهناك رئيس جديد يواجه العواصف من كل جانب في قصر الاتحادية اسمه عبد الفتاح السيسي. ان ما يحدث الآن بين القوى السياسية نوع من العبث الرخيص.. لسنا في حاجة إلى تجربة ناصرية جديدة لأن الزمن لا يعود للوراء ولسنا في حاجة إلى تجربة ساداتية أخرى.. نحن في حاجة إلى زمن جديد وشباب واعد، وعلى أشباح الماضي ان تأخذ مكانها في متاحف التاريخ.. ماذا يفيدنا الآن إذا طالب البعض بتكرار تجربة عبد الناصر والعالم تغير والأحداث والبشر والأوطان اشلاء ممزقة.. هل هذا هو العالم العربي الذي أطلق فيه عبد الناصر صيحة القومية العربية والوحدة.. وهل هذا هو العالم الذي حقق فيه السادات انتصار أكتوبر بدعم عربي كامل.. ان اخراج الموتى من قبورهم ونصب الأعلام لهم إهانة للحاضر وإهدار لمستقبل الشعوب.. ان أغرب ما في هذه الأحداث ان تتحول المعركة الإنتخابية القادمة إلى صراع بين القوى الوطنية تحت راية ناصر أو السادات وكأننا نعيد فتح ملفات الماضي واستعادة صوره الكئيبة.. ماهي الحكمة في إشعال هذه الفتن غير انها تخدم أطرافا أخرى تسعى لتدمير هذا الوطن!. ما هو الهدف ان نضع نظاما وليدا أمام انقسامات لا تفيد بل انها ستكون سببا في تقسيم الشارع المصري وهو ليس في حاجة إلى المزيد من الإنقسامات!. نحن أمام مواجهة ضارية مع الإرهاب ولم تعد مقصورة على سيناء ولكنها انتقلت إلى كل شبر في ربوع الوطن ما بين تدمير محولات الكهرباء ووسائل المواصلات والقطارات واغتيال الشهداء على الحدود في الفرافرة ورفح والشيخ زويد.. نحن أمام مواجهة مع فكر سياسي وديني متخلف يريد ان يرجع بهذا الوطن إلى الوراء عشرات السنين.. نحن أمام نظام مخلوع مازالت له مصالحه وقواعده والمدافعين عنه.. ان هذه الإنقسامات بين القوى السياسية والوطنية في هذه اللحظة تمثل تهديدا لأمن واستقرار هذا الوطن.. هل انتهت محنة الإخوان لندخل صراعا آخر بين الساداتية والناصرية.. أو بين ثوار يناير وثوار يونيو أو بين فلول الوطني وفلول الإخوان.. ماذا يبقى للفكر الجاد والمواقف الوطنية الحقيقية إذا تحول الشارع المصري إلى شراذم وميليشيات تهدد بعضها البعض!. إذا كانت الدولة المصرية الجديدة بدأت مرحلة للبناء تحتاج إلى حشد كل القوى البشرية والمادية فهل من الحكمة ان تخرج علينا أشباح الماضي وتفتح المعارك والصراعات؟ وما جدوى تقييم تجربة عبد الناصر أو السادات في هذا التوقيت بالذات.. ان الشئ المؤكد ان عبد الفتاح السيسي لن يكون عبد الناصر ولن يكون السادات لأن الزمان اختلف وكل إنسان ابن شرعي لظروفه والمناخ الذي عاش فيه.. وما أبعد اليوم عن البارحة وليس من الحكمة ان نغلق الأبواب أمام رئيس جديد له فكره ومشروعه ومواقفه لنفرض عليه صور ماض لن يعود وينبغي ألا يعود.. ان الذين يحاولون العودة للوراء واهمون فقد رحل كل نظام بإنجازاته وانكساراته، والإنجازات في سجلات التاريخ والإنكسارات غير قابلة للجبر أو الإصلاح. لقد شاهدت وسمعت مناقشات حول دور الزعيمين الراحلين افتقدت للأمانة والموضوعية وكل طرف يلقي التراب على الآخر وقد سمعتها وقرأتها من قبل عشرات المرات وهي ثرثرة لا تغير من الواقع شيئا. ان حالة من الإحباط بدأت تتسرب إلى نفوس الناس أمام هذه الصورة القاتمة وحالة الانقسامات والصراعات بين القوى السياسية والوطنية في لحظة نحن فيها أحوج ما نكون لجمع الشمل وتوحيد الكلمة.. يكفي ما عشناه من تجارب مريرة في الأعوام الأخيرة والظروف الصعبة التي عاشها المواطن المصري في رزقه وأمنه وحياته.. يكفي ماواجهناه من تجربتنا مع الإرهاب ومازالت الدماء البريئة تسيل أمام شيطان اخرس، يكفي ما تتعرض له مصر من مؤامرات دولية وإقليمية وجميعها تهدف إلى إجهاض هذا الشعب وتهديد مستقبله وحياته.. ان أى عاقل ينظر إلى ما يجري حولنا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وفلسطين لا بد ان يدرك خطورة اللحظة وحجم المؤامرة وان علينا جميعا ان ندرك المخاطر التي تحيط بنا. ان الغيبوبة التي تعيشها القوى السياسية وافتعال المعارك والصراعات ونحن على أبواب انتخابات برلمانية جديدة يمثل تهديدا حقيقيا لهذه الانتخابات وكيف عجزت هذه القوى حتى الآن – رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورتين وخلع رئيسين – عن ان توحد صفوفها وتتحول إلى قوى فاعلة ومؤثرة في الشارع المصري.. ان عودة الناصرية والساداتية إلى الساحة مرة أخرى إفلاس سياسي بكل المقاييس وعودة إلى ماض ليس من حقه ان يعود.. ان مصر تخوض الأن أكثر من معركة.. هناك معركة لإعادة البناء لمجتمع اجهضه الفساد والتسلط وسطوة الفكر المتخلف.. هناك معركة لإعادة الدور المصري بسماحة تدينه ورقي فكره وأحلامه في مستقبل أفضل.. هناك معركة لصياغة علاقات دولية متوازنة تقوم على المصالح المشتركة بين دول العالم.. هناك معركة لصياغة خطاب ديني واع وثقافة متحررة وفكر بناء.. هناك معركة ضد معاقل الإرهاب الذي ينخر في عقول الناس، وبقدر ما هي معركة أمنية فهي صراع أفكار بين التخلف والجهالة والتقدم بكل مظاهر السماحة والوسطية فيه.. ان ملايين الشباب في مصر ينتظرون فرصة عمل.. وملايين السكان في العشوائيات ينتظرون خدمات انسانية مناسبة.. وملايين الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون ينتظرون صبحا يضئ عقولهم.. وملايين الأطفال في المدارس يريدون تعليما عصريا صحيحا.. وملايين المرضى يريدون طبيبا ودواء ورعاية وقبل هذا كله فإن هذه الملايين تريد رغيف خبز وكرامة. لا أعتقد ان صراعات القوى السياسية يمكن ان تحقق مطلبا من هذه المطالب المشروعة لأي شعب وهي غارقة في صراعها ما بين الناصرية والساداتية ولن يكون غريبا ان ينضم لمسلسل الصراعات فئات أخرى ترفع شعار المباركية أو الإخوانية، فما دمنا نعيش زمن المزايدات والشعارات الكاذبة ستبقى هموم الناس آخر ما يحرك الضمائر والعقول. ان الوقت ليس في مصلحة أحد وإذا كنا قد تجاوزنا الكثير من المحن والأزمات فهذا لا يعني أبدا ان الربيع قادم فمازالت تهب علينا عواصف ترابية من أكثر من جانب بعضها من خارج الحدود وبعضها الآخر ينطلق بين أيدينا وعلينا ان ندرك ان المعركة لم تنته.. لقد دفعنا ثمنا غاليا وكان من الممكن ان يكون هذا الثمن أكبر بكثير. كلمة أخيرة حول الإنقسامات في الآراء والمزايدات التي دارت أخيرا على الساحة الإعلامية حيث يرى البعض ان الإعلام قام بثورتين وخلع رئيسين، بينما يرى البعض الآخر ان الإعلام كان وراء كوارث كثيرة.. والإنصاف يتطلب ان نراجع انفسنا بأمانة لأن الشعب هو الذي خلع رئيسين بدعم من الجيش.. ولأن الثورات لا تقوم على شاشات الفضائيات.. كان للإعلام دوره الذي لا ينكره أحد ولكن ينبغي ألا نحمل الأشياء فوق ما تحتمل.. ان هذا الإعلام مطالب الآن بحشد القوى السياسية والحزبية وإعادة الثقة بين المواطن المصري وكل هذه التيارات، يستطيع الإعلام المصري الآن ان يشارك في توحيد الكلمة من أجل مجلس نيابي حقيقي بعيدا عن مصادر الفتن القديمة.. ان معارك الشاشات والصراعات التي تنطلق كل ليلة من خلال وسائل الإعلام سوف تزيد المشهد ارتباكا، ان الأيام القادمة هي آخر فرصة أمام القوى السياسية والوطنية اما ان تصبح شيئا في الشارع المصري أو تدخل متاحف التاريخ وعليها ان تختار. ..ويبقى الشعر يا عَاشقَ الصُّبح وجهُ الشَّمْس ينشطِرُ وأنجُمُ العُمْر خلفَ الأفق تنتحِرُ نهفُو إلى الحُلم يَحْبُو فى جَوانِحِنا حَتَّى إذا شبَّ يكْبُو .. ثم يندثرُ يَنْسابُ فى العَيْن ضوءًا .. ثم نلمحُهُ نهرا من النار فى الأعماق يستعرُ عمرٌ من الحُزْن قدْ ضَاعتْ ملامحهُ وشرَّدتْهُ المنى واليأسُ..والضَّجرُ مَازلت أمْضِى وسرْبُ العُمْر يتبعُنى وكلَّما أشْتدَّ حلمٌ .. عَادَ ينكسرُ فى الحُلم مَوتى .. مَعَ الجلادِ مقصَلتِى وَبينَ مَوْتى وحُلمى .. ينْزفُ العُمُر إن يَحْكم الجهلُ أرضًا كيفَ ينقذهَا خيط من النُّور وسْط الليل ينحسرُ؟ لن يَطلعَ الفجرُ يومًا من حناجرنَا ولن يصونَ الحمى منْ بالحمَى غدرُوا لن يكْسرَ القيدَ مَنْ لانتْ عزائمُهُ ولنْ ينالَ العُلا .. مَنْ شلهُ الحذرُ ذئبٌ قبيحٌ يُصلِّى فى مَسَاجدنَا وفوْق أقْدَاسِنَا يزهُو .. ويفتخِرُ قدْ كانَ يَمْشى على الأشْلاءِ مُنتشيًا وَحَوْله عُصْبة ُ الجُرذان تأتمرُ من أينَ تأتى لوجهِ القُبْح مكْرمة ٌ وأنهرُ الملح هل يَنْمو بها الشَّجَرُ؟ القاتلُ الوغْدُ لا تحميهِ مسْبَحة حتى إذا قامَ وسْط البيتِ يعتمرُ كمْ جاءَ يسْعَى وفى كفيه مقصلة ُ وخنْجَرُ الغدر فى جنبيهِ يستترُ فى صفقةِ العمْر جلادٌ وسيِّدُهُ وأمَّة فى مزادِ المْوتِ تنتحِرُ يَعْقوبُ لا تبتئسْ .. فالذئْبُ نعْرفُه منْ دمِّ يوسُف كل الأهْل قدْ سكرُوا أسماءُ تبْكى أمامَ البيتِ فى ألم ٍ وابنُ الزُّبير على الأعْناق ِ يحتضرُ أكادُ ألمحُ خلفَ الغيْبِ كارثة ً وبحرَ دَمِّ على الأشلاءِ يَنْهَمرُ يومًا سيحْكى هنا عَنْ أمَّة هلكتْ لم يبْق من أرْضِها زرعٌ..ولا ثمرُ حقتْ عليْهم مِنَ الرَّحْمن لعنتُهُ فعِنْدَما زادَهم من فضْلِه..فجَرُوا يا فارسَ الشِّعر قل للشِّعر معذرة ً لنْ يسْمَعَ الشِّعرَ منْ بالوحْى قدْ كفرًوا واكتبْ على القبْر : هذى أمَّة رَحَلتْ لم يبق من أهْلها ذكرٌ..ولا أثرُ قصيدة "كانت لنا أوطان" سنة 1997 نقلا عن جريدة الأهرام