مدبولي: مشروع الضبعة سيوفر 3 مليارات دولار سنويا.. مسئولو صندوق النقد سيزورون مصر أول ديسمبر.. والاستثمارات الخاصة سجلت نموًا بنسبة 73%    وزيرة التضامن تشهد احتفالية "القومي للطفولة" باليوم العالمي للطفل    عاجل- تعزيز التعاون العسكري والسلام الإقليمي يتصدر مباحثات رئيس كوريا مع الرئيس السيسي    ننشر سعر اليورو اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025 في ختام التعاملات بالبنوك    تكاليف المعيشة والتضخم.. زهران ممدانى يكشف أجندة اجتماعه مع ترامب    إصابة عدد من الفلسطينيين بعد هجوم مستوطنين على قرية بشمال الضفة الغربية    بعد قرعة الملحق الأوروبي.. جاتوزو يحذر من أيرلندا الشمالية ويكشف مشكلة كييزا    وكيل حامد حمدان يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي والزمالك    من زيورخ إلى المكسيك.. ملحق مونديال 2026 على الأبواب    إصابة 8 اشخاص فى حادث تصادم سيارتين بالطريق الإقليمى    بعد تعرضها لوعكة صحية، أبرز المعلومات عن الإعلامية ميرفت سلامة    الإثنين المقبل.. انطلاق القمة السابعة للاتحاد الأوروبي و الإفريقي في أنجولا    رئيس الوزراء: مصر ستوفر 3 مليارات دولار سنويا بعد تشغيل محطة الضبعة    الإحصاء: 2.4 مليار طفل حول العالم عدد السكان الأقل عمرًا من 18 سنة    افتتاح مدرسة إصلاح إدريجة للتعليم الأساسي بتكلفة 6.5 مليون جنيه بكفر الشيخ    بعثة زيسكو تصل القاهرة لمواجهة الزمالك في الكونفيدرالية    جامعة القاهرة تستقبل الرئيس الكوري لي جاي ميونغ لتعزيز التعاون العلمي والأكاديمي    عراقجي: اتفاق القاهرة بين إيران والوكالة الدولية لم يعد ساريا    وزير الشباب والرياضة يستعرض مستهدفات المشروع القومي للموهبة والبطل الأولمبي    تطورات جديدة في الحالة الصحية للموسيقار عمر خيرت    النائب محمد إبراهيم موسى: تصنيف الإخوان إرهابية وCAIR خطوة حاسمة لمواجهة التطرف    رصاصة طائشة تنهي حياة شاب في حفل زفاف بنصر النوبة    غدًا.. انطلاق عروض الليلة الكبيرة بالمنيا    رئيس مياه القناة: تكثيف أعمال تطهير شنايش الأمطار ببورسعيد    مجلس الوزراء يُوافق على إصدار لائحة تنظيم التصوير الأجنبي داخل مصر    الرئيس الكوري الجنوبي يزور مصر لأول مرة لتعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي    صحة الإسكندرية: 14 وحدة و5 مستشفيات حاصلة على الاعتماد من هيئة الرقابة الصحية    المنيا: توفير 1353 فرصة عمل بالقطاع الخاص واعتماد 499 عقد عمل بالخارج خلال أكتوبر الماضي    لتصحيح الأوضاع.. السد يبدأ حقبة مانشيني بمواجهة في المتناول    محافظ الأقصر يوجه بتحسين الخدمة بوحدة الغسيل الكلوى بمركزى طب أسرة الدير واصفون    أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات تواصل الصعود وتقفز 7% بعد صفقة موانئ أبوظبي    إيمان كريم: المجلس يضع حقوق الطفل ذوي الإعاقة في قلب برامجه وخطط عمله    الغرفة التجارية بالقاهرة تنعى والدة وزير التموين    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    إيقاف إبراهيم صلاح 8 مباريات    حكم صلاة الجنازة والقيام بالدفن فى أوقات الكراهة.. دار الإفتاء توضح    رئيس أزهر سوهاج يتفقد فعاليات التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    أمين الفتوى يوضح حكم غرامات التأخير على الأقساط بين الجواز والتحريم    بيتكوين تستقر قرب 92 ألف دولار وسط ضبابية البنك الفيدرالى    بعد فرض رسوم 5 آلاف جنيه على فحص منازعات التأمين.. هل تصبح عبئا على صغار العملاء؟    انطلاق مباريات الجولة ال 13 من دوري المحترفين.. اليوم    تأثير الطقس البارد على الصحة النفسية وكيفية التكيف مع الشتاء    جنايات سوهاج تقضى بإعدام قاتل شقيقه بمركز البلينا بسبب خلافات بينهما    الأرصاد تحذر من طقس الساعات المقبلة: أمطار على هذه المناطق    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    السبت المقبل.. «التضامن» تعلن أسعار برامج حج الجمعيات الأهلية    استشاري صحة نفسية توضح سبب ارتفاع معدلات الطلاق    وزارة «التضامن» تقر قيد جمعيتين في محافظة الغربية    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا..... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    وزير الصحة يوجه بتشكيل لجنة للإعداد المبكر للنسخة الرابعة من المؤتمر العالمي للسكان    نصائح هامة لرفع مناعة الأطفال ومجابهة نزلات البرد    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"طقوس الموت والحياة" بالجزائر العربية
نشر في المصريون يوم 27 - 09 - 2014

في الثامنة من مساء الفاتح من سبتمبر 2014 ، انفرج الستار في مسرح محيي الدين بشطارزي بالجزائر العاصمة ، عن العرض المسرحي المصري ، لمسرح الطليعة بالقاهرة
( طقوس الموت والحياة ) ، للمخرج المصري / مازن الغرَباوي .. حيث كانت مصر هي ضيف الشرف لمهرجان المسرح المحترف ، في طبعته التاسعة ، بالجزائر الشقيقة ..
الجميع هنا كان يترقب ، ويتشوَّق ، وينتظر ماذا سيُقَدِّم له المسرح المصري ؟ .. لذا إمتلاْ مبنى المسرح الوطني العريق ، والعتيد ، والمُمَيَّز ، والمُطِل بشموخ على ساحة بورسعيد ( ميدان بورسعيد ) تيمنا ً بمدينة بورسعيد الباسلة ، حيث أبى الزعيم الخالد عبد الناصر أن يُطلق إسمه على الساحة تكريما ً له خلال زيارته الأولى للجزائر المستقلة عام 1964 ،
وفضل إطلاق اسم بورسعيد على الساحة .
إمتلاْ المسرح المطل من عليائه على ساحل المتوسط مباشرة ، بطوابقه الأربعة ، وحتى بممراته بالحشود ، حتى ذاب المنظمون بين الجمهور .. أ ُطفِئت أنوار الصالة .. ساد الصمت المكان ، وعمَّ السكون ، ترقُبا ً لما سوف يكون .. وإذا بموسيقى العرض للفنان الشاب / أحمد مصطفى ديدو ، وتوزيع الموسيقار / إلهامي دهيمة ، تتسلل إلى الآذان ، وتنساب بهدوء نسيم النيل العليل إلى الأسماع ، فتغسل الوجدان ، وتجلى الصدور ، وتُهيء النفوس لِما سوف يُعرَضُ من أحداث .. وإذا بفراشَتَيّ الوادي ‘‘ مَيّ إبراهيم '' ، و ‘‘ ياسمين سمير '' ترفرفان بخفة ، ورشاقة في فضاء المسرح ، فتُسحِرا العيون ، وتخلبا الأنظار ، لتتراقص قلوب الحضور بين الضلوع ، مع كل رفة جناح ، ومع كلّ تَثَنِّي ، وانحناءة جسد ، ومع كل خطو ٍ ، وحركة لِقَدِّهِنَّ المياس ، في تابلوه راقص .. ناعم .. عذب ، وخفيف ، في انسيابية ٍ ، وانسجام .. لِنُفاجأ بعروس النيل ، السمراء النحيلة ، فتاة الوادي ، الفنانة الشابة ، الجميلة الواعدة ، الزهرة اليانعة .. اللينة ، الطيِّعَة ‘‘ نُهى لُطفي '' لِتُعلِنَ للجميع ، بكل ثِقَةٍ واقتدار ، وعن جدارة ٍ ، ومهارة : أنا هُنا .. إنتظروني .. أنا قادمة .
لم تكن ‘‘ نُهى لُطفي '' تلك الممثلة الأستعراضية الشاملة ، شديدة الموهبة ، راسخة القَدَم ، تُعلِنُ عن ميلاد فنانة جديدة .. بل لِتُعلِنَ ميلاد عصر ٍ جديد .. عصر نُهى لُطفي .. ( مع احترامي ، وتقديري الشديد ، والعميق ، للعملاقتين : سناء جميل ، وسهير البابلي ، ولمكانتهن ، ودورهن ، وتاريخهن ) ، لِتُنسِجَ لنا نُهى لُطفي بأدائها الرائع ، ماغزَلَهُ لها ، ولنا ، باقتدار د . عصام عبد العزيز ، نصا ً .. صياغة ، حوارا ً ، وكلمات .. في بساطة ٍ ، وسلاسة ، وانسيابية ، وشاعرية ، في فصحى رصينة ، دون تَقَعُّر ٍ ، أو حذلقة .. بِلُغَة ٍ راقية من غير افتعال ٍ ، ودون تعال ( بشهادة من جاوروني في المقاعد الأمامية من الفنانين ، والأكاديميين الجزائريين ، منهم المخرج المخضرم / عمر فطموش ، ورشيد جرورو ، ود . نور الدين عمرون ، ود . إبراهيم نويل ، وكذلك الضيوف الأكارم من العرب ، من تونس ، والعراق ، ولبنان ، ود . عبدالكريم جواد ، من سلطنة عُمان ، ود . عبد الكريم برشيد من المغرب ) .
نُهى لُطفي التى أدّت دور الأرملة الشابّة ، الرقيقة ، الملتاعة ، التي لم تخلع رداء العُرس بعد ، حيث لم تكتمل فرحتها بالعُرس ، ولم تهنأ بالزوج ، جعلت كلّ مَنْ في الصالة يتعاطف مع مأساتها .. جعلتنا بصدق أدائها ، وتقمصها للشخصية نعيش معها فجيعتها في الزوج ، ونشعر بعجزنا وعدم قدرتنا على التخفيف من معاناتها .. جعلتنا نُهى ننزف معها شجنا ً ، ونتوجَّع معها ألما ً ، إلى أن يبلغ المشهد ذروة الصراع ، بظهور الأرملة الثانية الفنانة القديرة وفاء الحكيم ، بثوبها الأسود حدادا على الزوج الفقيد الثائر ، الذي تخشاه السلطة ، حتى بعد موته ، فتشدد الحراسة على جثمان الثائر بجنديين ، أحدهما الممثل الشاب / محمود عزت ، الذي يُطِلُّ علينا بقامته الفارعة ، وبكل ماوهبه الله من طاقة ، وحيوية ، وبرجولة طاغية ، وكاريزما عالية ، وكأنّه قائد متمرس ٌحقيقي ، خُلِقَ للعسكرية ، والجُنديّة ، ومساعده في نوبة الحراسة الممثل الشاب / مايكل ناجي .
في المشهد الذي يجمع بين الأرملتين ، نُهى لُطفى ، ووفاء الحكيم ، يتجلى الصراع في أرقى صِوَرِهِ الفنية ، بين أرملة شابه في مُقتَبَلِ العُمر ، وإمرأة ٍ في سن الكهولة ، مازالت تفيض نُضجا ً ، وأنوثة ، رغم سنّها الذي يُؤذِنُ بالغروب ، ويشي بالمغيب ، عبَّرَ عنها المُخرج ، ومصمم الأزياء بلغة فنيّة ، واحترافيّة ، وحِسٍ جماليّ ، وشاعرية ، رغم جوّ الأحداث الذي يَشي بالمأساوية
تَجَلَّى ذلك في توظيف اللونين الأبيض ، والأسود بذكاء ٍ وأريحية ، بكل مايرمز اللونين من تضاد لنفسية الشخصيتين ، الأرملتين ، وحتى للنظر ، والعين ، وللرؤية ، وكذلك للموقف ، وللفكرة .. وتُجَسِّد الأرملتان مشاعر الغيرة التي تحتدم بينهما على رجل ٌ ميت ، هو في واقع الحال جُثّة ،
لرجُل ٍ فان ٍ .. مُجَرَّد رُفات ، لرجُل ٍ كان .. فتؤكد لنا المسكينتان بدون وعيّ ٍ منهما ، وإن ْ لم يخفى بالطبع على الكاتب أن الغيرة عِند المرأة غريزة ، في موقف مُلتَبِس عليهما ، وعلينا ، مما يخلق سوء الفهم الذي يؤججُ الصراع بينهما .. لكن سرعان ماتكتشف الأرملتان براءة الزوج الفقيد الثوري ، بريء من الخيانة .. ويزول الشك تجاهه ، بينهما ، وفيه .. ليؤكد لنا المؤلف دون أن يقع في شَرَك ِ المُباشرة ، أن موقف الثوري لا يتجزأ .. وأن سلوك الثوري الأصيل ، متوازن ، ولا يتناقض مع نفسه إجتماعيا ً ، وسياسيا ً .. أ ُسَرِيّا ً ، ووطنيا ً .. باختصار .. أراد المؤلف أن ْ يؤكد لنا بذكاء أنّ الثائر لا يُمكِن أن ْ يخون .. ويتركنا لأنفسنا ، وباجتهاد ومقدرة كل مُتلقي ، على الربط بين المرأة والوطن .
يقتحم الممثل الشاب / محمود عزت ، بردائه العسكريّ ، خشبة المسرح ، يمتلكها ، وكأنّه ُ وُلِدَ فوقها .. يجوس ُ فيها ، وفي جنباتها ، وزواياها وأركانها ، وكأنها مهده ، ولحده .. يجوب الخشبه ، يُهروّل ، يركض ، يركع ، ينتصب ، ملء السمع ، وملء البصر .. نعم ، محمود عزت
يملأ الفضاء المسرحي ، بإطلالته ، وبقامته ، ومقدرته ، فيشد إنتباه واهتمام الجميع ، ونحبس ُ الأنفاس ، لنستمع إلى معزوفة الأداء ، والإلقاء ، باحترافية ، ومهارة ، وجدارة .. فأسمعنا ، واستمتعنا ، وعاش وعشنا معه الشخصية .. صدقا ً حاولت ُ تصيّد الأخطاء في الإلقاء بحكم مهنتي وتخصُصي ولكن محمود عزّت أفحمني ، ولم يُعطني الفرصة لذلك .. مما جعلني أنحنى له إحتراما ً وتقديرا ً ، وهو في عُمْر أبنائي .. ومن هذا المنبر ، أ ُوَجه كلمة ً إلى محمود عزّت : انت يابُنيّ جمعت بين مدرستين في الأداء ، وخاصة ً في الإلقاء ، مدرسة الراحل القدير .. المُعلّم ، والرائد ، والأستاذ / كرم مطاوع ، بما كان ينفرد به من توظيف طبقاته الصوتية ، حيث يُجيد العزف على أوتاره الصوتيه ، والفنان الجميل / محمود ياسين ، صاحب القرار العميق ، وطبقة الباريتون الرجولية ، وقماشة صوته العميق ، والعريض .. الدافىء ، والشجيّ .. الحنون ، والآسِر ، فكنت يامحمود عزّت تتحكم في مخارج الألفاظ ، وبالتالي النطق السليم ، وإبراز عذوبة العربية ، لغة السماء إلى أهل الأرض ، وهي تخرج من بين ثنايا شفتيك .
محمود عزّت ، جعل كل من في مسرح بشطارزي يتشبث بمساند مِقعده ، خوفا ً مِن ْ أن ْ يعلوا مِن ْ مكانه مع طبقاته الصوتية وهي تتصاعد في ( كريشيندو ) لا يصدر إلا عن خبير ، خاصة ً في منولوجه الأخير ، الذي بلغ فيه ، وبه ِ الذُّروَة .. كان محمود عزّت في أدائه ، وتقمصه لشخصية الرّجُل العسكريّ أستاذا ً ، أعطى لنا درسا ً في كيفية الأداء ، وكيف يكون الإلقاء .
إحتض هذا العرض فوق الخشبة ، وفي الخلفية ‘‘ سينوغرافيا " شفّافة ، رائعة ، شديدة الرومانسية ، بنجوم تتلألأ في ليل المقبرة ، وقمر يطل على الموتى قبل الأحياء ، في ضوء حنين ٍ ، وحنون .. سينوغرافيا بددت وحشة المقابر ، ورهبة الموت .. سينوغرافيا صانعها أكاديميّ وفنان ، د . أحمد عبد العزيز ، الذي أثبت لنا صِحةَ َ نظرية أنَّ الموهبة والعلم في الفن يتكاملان .. فعِلم بلا موهبة ، لن يُنتِجَ فنّا ً .. لكن الموهبة لابُدّ مِنْ أنْ تُصقل بالعلم ، كي نشاهد مارأيناه مِنْ عرضٍ يُبهِرَ العقول قبل العيون ، ويحتل القلوب قبل العقول ، ويتغلغل في الروح قبل الوجدان ، ويرسخ في الضمير قبل الأذهان .
كان هذا العرض المسرحي ( طقوس الحياة والموت ) أشبه بزورق يسبح بنا في نهر مِنَ الموسيقى ، يتدفق مِنْ بداية العرض ، وحتى النهاية ، دون توقف .. موسيقى سحرتنا .. بهرتنا .. سرقتنا مِنْ أنفسنا .. وعندما توقفت مع نهاية العرض ، جعلتنا نتساءل : هل ماشاهدناه .. أقصد ما عشناه ، كان حُلما ً ، أم واقعا ً ؟ .. كان وهما ً ، أم حقيقة ؟ .. وإذا ماكان حُلما ً ، فلِم َ أفقنا ؟ .. وكيف أفقنا ؟ .. أفقنا على تصفيق الجمهور المذهول .. بحق كان عرضا ً ، أقصد كان حُلما ً ، ليتهُ لم ينتهي .. لقد جعلتنا الموسيقى المواكبه للعرض لا نشاهد عرضا ً مسرحيا ً ، بل وكأننا نُشاهد عرضا ً سينمائيا ً ، على الرغم مِنْ أنَّ المُخرِج وأ ُجزِم لمْ يستخدم على الإطلاق أيّة تقنيّة سينمائية ، ولا حتّى خِدَع ٍ مسرحية .. ولمْ يلجأ إلى الإبهار كي يُخفى عيبا ً ، أو ضعفا ً ، أو انهيار .. بل كان العرض مسرحيّا ً ، صِرفا ً .. بحتا ً .
لقد تضافرت الموسيقى مع السينوغرافيا مع إضاءة البارع د . رامي بنيامين ، الذي رسم لنا تابلوهات بالألوان ، والظلال .. رامي بنيامين كان يعزف سيمفونية الضوء واللون .. قدّم لنا هنا عزفاً بالضوء دون إبهار ودون إقحام .. وأعتمد بالأساس على الضوء الأحمر ، برمزية الإستشهاد ، والأزرق الحالم ، برومانسيته ، وشاعريته ، والأبيض الأبيض بنقائه وشفافيته .. وكانت أضواءه التى أجاد توظيفها لواقع الحال والأحداث ، بالغ الأثر والتأثير على وفي نفسية المشاهدين .. يبدو لي أنّ هذا الفنان يحوز على ضوء داخلي أنعم الله به ِ عليه فلم يستأثر به ِ لنفسِه ، ولم يبخل به ِ علينا .. هنا تبرز أيضا ً عبقرية إمتزاج الموهبة بالعلم .. صقل الموهبة بالدراسة ، والعلم ، وتنمية الموهبة بالخيرة والممارسة ، فلا شىء يأتي من فراغ .
تحيّة مِن ْ الأعماق للفنانة / كريمة بدير ، مُصممّة الحركات ، وراسمة التابلوهات الراقصة ، في العرض .. كانت كريمة ، بالفعل كريمة .. إسما ً على مُسَمّى .. كريمة إسما ً ، ووصفةً وفعلا ً ، وفِكرا ً ، وخيالاً ، وابتكارا ً ، وإبداعا ً .. فلم تبخل علينا الكريمة كريمة بما أجادت به ِ موهبتها ، وقريحتها ، وخيالها الثريِّ ، خاصة رقصة الدويتو بين الثنائي الممثلة / نُهى لُطفي ، والمحترف / ميدو آدم .. ذلك الراقص الوسيم ، الموهوب ، المُتألق ، صاحب الطّلة البهيّة .. الوسيم ، والجميل شكلا ً ، ومضمونا ً، الذي بدا بقوامه الممشوق ، وقامته الفارعة ، وجسده الرشيق ، وحركاته الإنسيابية المتناسقة ، وحيويته المتدفقة ، وكأنه من فرسان العصور الوسطى ، أو من أمراء عصر النهضة ، أو ملاك هبط علينا من كوكب عُلويّ .. لن أبالغ لو قلت بدا ‘‘ ميدو آدم '' وكأنه ليس من سلالة أبينا آدم ، بل كائن نوراني ، وليس مِن ْ جِنس البشر ، من فرط توهجه ، وتألقه على المسرح ، وهذا هو سحر الفن ، وسِر الفن .. وإعجاز الفن .. فقدّم لنا مع ‘‘ نُهى لُطفى " تابلوها ً راقصا ً ، في غاية الروعة ، والمُتعة ، في رقصة أقرب للتانجو .. لعبا فيها معا ً بعقولنا ، وقلوبنا ، ومشاعرنا ، وتمنينا لو لم تنتهي تلك اللوحة الإنسانية مِن فرط جمالها .. ولكن لأنّ المخرج الفنان البارع ، ومايسترو العرض ، وربان السفينة / مازن الغرباوي ، كانَ يُمسك بالدفة ، والمجداف ، ونوتيّا ً يقظا ً لإيقاع العرض ، فكان يقمع شهوته ، وشهواتنا ، كيّ لا يضعف أمام جمال مشهد ، على حساب مشهد آخر ، للحفاظ على جماليات العرض الكُليّ ، والخط العام .. كان كل شىء عند ‘‘ مازن الغرَباوي " بميزان ، وحسابات ، وعينه وحِسّه ُ على الإيقاع العام ، وكأنه ترزيّ ماهر يُطرّز ُ تُحفة ً من الدانتيلا .. وبعقل فنان ٍ واع ٍ يقظ ، لمْ تُسكِرهُ نشوة النجاح ، ولا خمر الثناء والمديح ، فكان قويا ً وجسورا ً ، مقداما ً ومتمكنا ً .. واعيا ً ، وواثقا ً ، فلم يلجأ إلى الإبهار .. ويرجع ذلك مِن ْ وجهة نظري أن نقاط القوة عند مازن الغرباوي المخرج : 01 أنّه ُ يُجيد إختيار الممثلين .
02 يُجيد إنتقاء الفنانين والفنيين .
03 أنه صاحب رؤية منذ القراءة الأولى للنص .. الرؤية الفنية لمنهج
وأسلوب الإخراج لديه واضحة وصافية في ذهنه ، وغير مُشَوّشَة
04 لا يترك شيئا ً للظروف ، أو المصادفة ، أو للهوى ، والمزاج ، أو
كما يُقال على حسب الريح ....
إنّ مازن الغرَباوي بحق ، ذلك المخرج الشاب ، والواعد ، إستطاع في سنوات ٍ قليلة ، أنْ يُحَقِقَ قفزات كبيرة ، ليحفر إسمه إلى جوار أسماء مخرجينا الكبار : كرم مطاوع ، سعد أردش ، نبيل الألفي ، جلال الشرقاوي ، سمير العصفوري ، وأحمد عبد الحليم .. أحمد الله أنّ مازن الغرَباوي أثبت لي بالدليل ، وباليقين ، أنّ مصر وَلاّدَة .
أما الأيقونة ‘‘ نُهى لُطفى '' جعلتني بعد إنتهاء العرض ، ومِنْ فرط حماسي ، أقول لها :
‘‘ يانُهى .. ياإبنتي .. لقد جعلتني أ ُحِبُ مصر أكثر .. وأنا البعيد ُ عن عنها طوال ثمانية وثلاثون عاما ً .. نُهي .. لقد أحببت ُ مصر الليلة مِنْ خلالِك كما لم أ ُحِبّها مِنْ قبل .
وفي إلتفاتة ٍ ذكية ، وحضارية ، مِنَ الفنانين المصريين ، بعد إنتهاء العرض ، يتعانق العلمان المصري ، والجزائري ، تعبيرا ً عما تُكنه مصر الثورة ، ومصر التاريخية الناصرية للجزائر شعبا ً ، وحكومة ، ومسئولين ، وامتنانا ً للحفاوة ، وكرم الضيافة التي قُوبِل َ بها فنانوا مسرح الطليعة المصري على أرض الجزائر .. كل ذلك وسط تصفيق الجماهير الغفيرة ، حيث التهبت الأكُفُّ بالتصفيق ، تقديرا ً ، وإعجابا ً ، وإنبهارا .. يُتوّج ذلك كلّه الكلمة الإرتجالية للفنان الكبير / فتوح أحمد ، رئيس الوفد المصري ، ووكيل وزارة الثقافة ، ورئيس البيت الفني للمسرح بمصر ، بتلقائيته حيث نبعت كلماته العفوية من القلب بكل ماتحمله من دفء ، وحرارة ، وصدق ، لتصل إلى قلوب كل الأشقاء الجزائريين ..
شكرا ً مازن الغرباوي .. شكرا ً لفناني ، وفنّيي عرض ( طقوس الحياة والموت ) .. شرفتمونا .. رفعتم رؤوسنا .. رفعتم رأس مصر .. لقد كنتم خير سفراء ٍ لمصر .. بل كنتم أفضل سفراء فوق العادة أنجبتهم مصر .. بل قمتم بما لم يقم به الكثير من الساسة ، والدبلوماسيين ..

*أستاذ الإلقاء المسرحي بالمعهد العالي للفنون الدرامية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.