تراجع أسعار الذهب عالمياً اليوم الجمعة 3 أكتوبر في بداية التعاملات    أسعار الفاكهة اليوم الجمعة 3-10-2025 في قنا    إسرائيل تستهدف منظومة دفاعية لحزب الله في جنوب لبنان    إطلاق إنذار بوجود مسيرة في سوتشي الروسية بعد خطاب بوتين حول أوكرانيا    بريطانيا..مقتل 2 وإصابة 4 في هجوم دهس وطعن خارج كنيس يهودي    الصين تطالب ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    طقس اليوم: حار نهارًا معتدل ليلا والعظمى بالقاهرة 33    القبض على قاتل شاب بقرية ميت كنانة في القليوبية إثر خلاف مالي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 3-10-2025 في محافظة قنا    هل اللبن «سم قاتل»؟.. «خبير تغذية» يوضح الحقيقة    أسعار البنزين والسولار اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025 فى محطات الوقود    جبران: تحرير 6185 محضرًا بشأن تراخيص عمل الأجانب خلال 22 يومًا فقط    بسبب الحفلات المزيفة.. إجراء قانوني من الشامي بسبب حفل إسطنبول    هل تتحقق توقعات ليلى عبد اللطيف بثراء 4 أبراج فى أواخر عام 2025؟    تابع زلزالى بقوة 5.1 درجة يضرب مدينة بوجو فى الفلبين    أخبار مصر: الزيادة المتوقعة بأسعار البنزين، ترامب يهدد بإشعال أمريكا بسبب الإغلاق الحكومي، الكشف رسميًّا عن كرة مونديال 2026    حمية الفواكه والخضراوات والمكسرات قد تمنع ملايين الوفيات عالميا    ليلى علوي تنهار من البكاء خلال مهرجان الإسكندرية.. اعرف التفاصيل    تصريح صادم من سماح أنور عن المخرجة كاملة أبو ذكري    يحيى الفخراني: هوجمنا في قرطاج بسبب «خرج ولم يعد».. وهذا سبب بقاء فيلم الكيف    الفيضان قادم.. والحكومة تناشد الأهالي بإخلاء هذه المناطق فورا    موعد شهر رمضان 2026 .. تعرف على غرة الشهر الكريم وعدد أيام الصيام    القنوات الناقلة مباشر لمباراة مصر ضد تشيلي في كأس العالم للشباب 2025    بوتين يحذر أمريكا من تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك    القبض على المتهم بالشروع فى قتل صاحب محل بالوراق    محافظ الإسكندرية عن التكدسات المرورية: المواطن خط أحمر ولن نسمح بتعطيل مصالحه    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    رياض الخولي أثناء تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي: "أول مرة أحضر مهرجان .. وسعيد بتكريمي وأنا على قيد الحياة"    موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الموسم السابع 2025 على قناة الفجر الجزائرية    رسميًا بعد ترحيلها.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 وفقًا لتصريحات الحكومة    أمين عمر حكم لمباراة كهرباء الإسماعيلية ضد الأهلي    «عماد النحاس لازم يمشي».. رضا عبدالعال يوجه رسالة ل مجلس الأهلي (فيديو)    أسعار الفراخ اليوم الجمعة 3-10-2025 في بورصة الدواجن.. سعر كيلو الدجاج والكتكوت الأبيض    سورة الكهف يوم الجمعة: نور وطمأنينة وحماية من فتنة الدجال    الشاعر مصطفى حدوتة بعد ترشح أغنيته للجرامي: حدث تاريخي.. أول ترشيح مصري منذ 20 عامًا    نائب محافظ سوهاج يكرم 700 طالب و24 حافظًا للقرآن الكريم بشطورة    موعد إعلان نتيجة منحة الدكتور علي مصيلحي بالجامعات الأهلية    مدرسة المشاغبين، قرار صارم من محافظ القليوبية في واقعة ضرب معلم لزميله داخل مكتب مدير المدرسة    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    انتداب المعمل الجنائي لفحص حريق مخزن وشقة سكنية بالخانكة    اللجنة النقابية تكشف حقيقة بيان الصفحة الرسمية بشأن تطبيق الحد الأدنى للأجور    مختار نوح: يجب محاسبة محمد حسان على دعواته للجهاد في سوريا    ناقد رياضي يكشف كواليس خروج حسام غالي من قائمة محمود الخطيب    ناقد رياضي: هزيمة الزمالك من الأهلي أنقذت مجلس القلعة البيضاء    اللواء محمد رجائي: إعادة «الإجراءات الجنائية» للنواب يُؤكد حرص الرئيس على قانون يُحقق العدالة الناجزة    أتربة عالقة في الأجواء .. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025    رابط التقييمات الأسبوعية 2025/2026 على موقع وزارة التربية والتعليم (اعرف التفاصيل)    الزمالك يعالج ناصر منسي والدباغ من آلام القمة 131    نائب محافظ سوهاج يكرم 700 طالب و24 حافظًا للقرآن الكريم بشطورة| فيديو وصور    كراكاس تتهم واشنطن بانتهاك سيادة أجوائها    حزب الإصلاح والنهضة يدشّن حملته الانتخابية للنواب 2025 باستعراض استراتيجيته الدعائية والتنظيمية    رسميا.. 4 شروط جديدة لحذف غير المستحقين من بطاقات التموين 2025 (تفاصيل)    «أفضل صفقة».. باسم مرسي يتغزل في مهاجم الزمالك    «هيدوب في بوقك».. طريقة سهلة لعمل الليمون المخلل في البيت    ضيفي ملعقة «فلفل أسود» داخل الغسالة ولاحظي ماذا يحدث لملابسك    منافسة ساخنة على لوحة سيارة مميزة "ص أ ص - 666" والسعر يصل 1.4 مليون جنيه    الكويت تدخل موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية بأطول جراحة روبوتية عابرة للقارات    خالد الجندى: كثير من الناس يجلبون على أنفسهم البلاء بألسنتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"طقوس الموت والحياة" بالجزائر العربية
نشر في المصريون يوم 27 - 09 - 2014

في الثامنة من مساء الفاتح من سبتمبر 2014 ، انفرج الستار في مسرح محيي الدين بشطارزي بالجزائر العاصمة ، عن العرض المسرحي المصري ، لمسرح الطليعة بالقاهرة
( طقوس الموت والحياة ) ، للمخرج المصري / مازن الغرَباوي .. حيث كانت مصر هي ضيف الشرف لمهرجان المسرح المحترف ، في طبعته التاسعة ، بالجزائر الشقيقة ..
الجميع هنا كان يترقب ، ويتشوَّق ، وينتظر ماذا سيُقَدِّم له المسرح المصري ؟ .. لذا إمتلاْ مبنى المسرح الوطني العريق ، والعتيد ، والمُمَيَّز ، والمُطِل بشموخ على ساحة بورسعيد ( ميدان بورسعيد ) تيمنا ً بمدينة بورسعيد الباسلة ، حيث أبى الزعيم الخالد عبد الناصر أن يُطلق إسمه على الساحة تكريما ً له خلال زيارته الأولى للجزائر المستقلة عام 1964 ،
وفضل إطلاق اسم بورسعيد على الساحة .
إمتلاْ المسرح المطل من عليائه على ساحل المتوسط مباشرة ، بطوابقه الأربعة ، وحتى بممراته بالحشود ، حتى ذاب المنظمون بين الجمهور .. أ ُطفِئت أنوار الصالة .. ساد الصمت المكان ، وعمَّ السكون ، ترقُبا ً لما سوف يكون .. وإذا بموسيقى العرض للفنان الشاب / أحمد مصطفى ديدو ، وتوزيع الموسيقار / إلهامي دهيمة ، تتسلل إلى الآذان ، وتنساب بهدوء نسيم النيل العليل إلى الأسماع ، فتغسل الوجدان ، وتجلى الصدور ، وتُهيء النفوس لِما سوف يُعرَضُ من أحداث .. وإذا بفراشَتَيّ الوادي ‘‘ مَيّ إبراهيم '' ، و ‘‘ ياسمين سمير '' ترفرفان بخفة ، ورشاقة في فضاء المسرح ، فتُسحِرا العيون ، وتخلبا الأنظار ، لتتراقص قلوب الحضور بين الضلوع ، مع كل رفة جناح ، ومع كلّ تَثَنِّي ، وانحناءة جسد ، ومع كل خطو ٍ ، وحركة لِقَدِّهِنَّ المياس ، في تابلوه راقص .. ناعم .. عذب ، وخفيف ، في انسيابية ٍ ، وانسجام .. لِنُفاجأ بعروس النيل ، السمراء النحيلة ، فتاة الوادي ، الفنانة الشابة ، الجميلة الواعدة ، الزهرة اليانعة .. اللينة ، الطيِّعَة ‘‘ نُهى لُطفي '' لِتُعلِنَ للجميع ، بكل ثِقَةٍ واقتدار ، وعن جدارة ٍ ، ومهارة : أنا هُنا .. إنتظروني .. أنا قادمة .
لم تكن ‘‘ نُهى لُطفي '' تلك الممثلة الأستعراضية الشاملة ، شديدة الموهبة ، راسخة القَدَم ، تُعلِنُ عن ميلاد فنانة جديدة .. بل لِتُعلِنَ ميلاد عصر ٍ جديد .. عصر نُهى لُطفي .. ( مع احترامي ، وتقديري الشديد ، والعميق ، للعملاقتين : سناء جميل ، وسهير البابلي ، ولمكانتهن ، ودورهن ، وتاريخهن ) ، لِتُنسِجَ لنا نُهى لُطفي بأدائها الرائع ، ماغزَلَهُ لها ، ولنا ، باقتدار د . عصام عبد العزيز ، نصا ً .. صياغة ، حوارا ً ، وكلمات .. في بساطة ٍ ، وسلاسة ، وانسيابية ، وشاعرية ، في فصحى رصينة ، دون تَقَعُّر ٍ ، أو حذلقة .. بِلُغَة ٍ راقية من غير افتعال ٍ ، ودون تعال ( بشهادة من جاوروني في المقاعد الأمامية من الفنانين ، والأكاديميين الجزائريين ، منهم المخرج المخضرم / عمر فطموش ، ورشيد جرورو ، ود . نور الدين عمرون ، ود . إبراهيم نويل ، وكذلك الضيوف الأكارم من العرب ، من تونس ، والعراق ، ولبنان ، ود . عبدالكريم جواد ، من سلطنة عُمان ، ود . عبد الكريم برشيد من المغرب ) .
نُهى لُطفي التى أدّت دور الأرملة الشابّة ، الرقيقة ، الملتاعة ، التي لم تخلع رداء العُرس بعد ، حيث لم تكتمل فرحتها بالعُرس ، ولم تهنأ بالزوج ، جعلت كلّ مَنْ في الصالة يتعاطف مع مأساتها .. جعلتنا بصدق أدائها ، وتقمصها للشخصية نعيش معها فجيعتها في الزوج ، ونشعر بعجزنا وعدم قدرتنا على التخفيف من معاناتها .. جعلتنا نُهى ننزف معها شجنا ً ، ونتوجَّع معها ألما ً ، إلى أن يبلغ المشهد ذروة الصراع ، بظهور الأرملة الثانية الفنانة القديرة وفاء الحكيم ، بثوبها الأسود حدادا على الزوج الفقيد الثائر ، الذي تخشاه السلطة ، حتى بعد موته ، فتشدد الحراسة على جثمان الثائر بجنديين ، أحدهما الممثل الشاب / محمود عزت ، الذي يُطِلُّ علينا بقامته الفارعة ، وبكل ماوهبه الله من طاقة ، وحيوية ، وبرجولة طاغية ، وكاريزما عالية ، وكأنّه قائد متمرس ٌحقيقي ، خُلِقَ للعسكرية ، والجُنديّة ، ومساعده في نوبة الحراسة الممثل الشاب / مايكل ناجي .
في المشهد الذي يجمع بين الأرملتين ، نُهى لُطفى ، ووفاء الحكيم ، يتجلى الصراع في أرقى صِوَرِهِ الفنية ، بين أرملة شابه في مُقتَبَلِ العُمر ، وإمرأة ٍ في سن الكهولة ، مازالت تفيض نُضجا ً ، وأنوثة ، رغم سنّها الذي يُؤذِنُ بالغروب ، ويشي بالمغيب ، عبَّرَ عنها المُخرج ، ومصمم الأزياء بلغة فنيّة ، واحترافيّة ، وحِسٍ جماليّ ، وشاعرية ، رغم جوّ الأحداث الذي يَشي بالمأساوية
تَجَلَّى ذلك في توظيف اللونين الأبيض ، والأسود بذكاء ٍ وأريحية ، بكل مايرمز اللونين من تضاد لنفسية الشخصيتين ، الأرملتين ، وحتى للنظر ، والعين ، وللرؤية ، وكذلك للموقف ، وللفكرة .. وتُجَسِّد الأرملتان مشاعر الغيرة التي تحتدم بينهما على رجل ٌ ميت ، هو في واقع الحال جُثّة ،
لرجُل ٍ فان ٍ .. مُجَرَّد رُفات ، لرجُل ٍ كان .. فتؤكد لنا المسكينتان بدون وعيّ ٍ منهما ، وإن ْ لم يخفى بالطبع على الكاتب أن الغيرة عِند المرأة غريزة ، في موقف مُلتَبِس عليهما ، وعلينا ، مما يخلق سوء الفهم الذي يؤججُ الصراع بينهما .. لكن سرعان ماتكتشف الأرملتان براءة الزوج الفقيد الثوري ، بريء من الخيانة .. ويزول الشك تجاهه ، بينهما ، وفيه .. ليؤكد لنا المؤلف دون أن يقع في شَرَك ِ المُباشرة ، أن موقف الثوري لا يتجزأ .. وأن سلوك الثوري الأصيل ، متوازن ، ولا يتناقض مع نفسه إجتماعيا ً ، وسياسيا ً .. أ ُسَرِيّا ً ، ووطنيا ً .. باختصار .. أراد المؤلف أن ْ يؤكد لنا بذكاء أنّ الثائر لا يُمكِن أن ْ يخون .. ويتركنا لأنفسنا ، وباجتهاد ومقدرة كل مُتلقي ، على الربط بين المرأة والوطن .
يقتحم الممثل الشاب / محمود عزت ، بردائه العسكريّ ، خشبة المسرح ، يمتلكها ، وكأنّه ُ وُلِدَ فوقها .. يجوس ُ فيها ، وفي جنباتها ، وزواياها وأركانها ، وكأنها مهده ، ولحده .. يجوب الخشبه ، يُهروّل ، يركض ، يركع ، ينتصب ، ملء السمع ، وملء البصر .. نعم ، محمود عزت
يملأ الفضاء المسرحي ، بإطلالته ، وبقامته ، ومقدرته ، فيشد إنتباه واهتمام الجميع ، ونحبس ُ الأنفاس ، لنستمع إلى معزوفة الأداء ، والإلقاء ، باحترافية ، ومهارة ، وجدارة .. فأسمعنا ، واستمتعنا ، وعاش وعشنا معه الشخصية .. صدقا ً حاولت ُ تصيّد الأخطاء في الإلقاء بحكم مهنتي وتخصُصي ولكن محمود عزّت أفحمني ، ولم يُعطني الفرصة لذلك .. مما جعلني أنحنى له إحتراما ً وتقديرا ً ، وهو في عُمْر أبنائي .. ومن هذا المنبر ، أ ُوَجه كلمة ً إلى محمود عزّت : انت يابُنيّ جمعت بين مدرستين في الأداء ، وخاصة ً في الإلقاء ، مدرسة الراحل القدير .. المُعلّم ، والرائد ، والأستاذ / كرم مطاوع ، بما كان ينفرد به من توظيف طبقاته الصوتية ، حيث يُجيد العزف على أوتاره الصوتيه ، والفنان الجميل / محمود ياسين ، صاحب القرار العميق ، وطبقة الباريتون الرجولية ، وقماشة صوته العميق ، والعريض .. الدافىء ، والشجيّ .. الحنون ، والآسِر ، فكنت يامحمود عزّت تتحكم في مخارج الألفاظ ، وبالتالي النطق السليم ، وإبراز عذوبة العربية ، لغة السماء إلى أهل الأرض ، وهي تخرج من بين ثنايا شفتيك .
محمود عزّت ، جعل كل من في مسرح بشطارزي يتشبث بمساند مِقعده ، خوفا ً مِن ْ أن ْ يعلوا مِن ْ مكانه مع طبقاته الصوتية وهي تتصاعد في ( كريشيندو ) لا يصدر إلا عن خبير ، خاصة ً في منولوجه الأخير ، الذي بلغ فيه ، وبه ِ الذُّروَة .. كان محمود عزّت في أدائه ، وتقمصه لشخصية الرّجُل العسكريّ أستاذا ً ، أعطى لنا درسا ً في كيفية الأداء ، وكيف يكون الإلقاء .
إحتض هذا العرض فوق الخشبة ، وفي الخلفية ‘‘ سينوغرافيا " شفّافة ، رائعة ، شديدة الرومانسية ، بنجوم تتلألأ في ليل المقبرة ، وقمر يطل على الموتى قبل الأحياء ، في ضوء حنين ٍ ، وحنون .. سينوغرافيا بددت وحشة المقابر ، ورهبة الموت .. سينوغرافيا صانعها أكاديميّ وفنان ، د . أحمد عبد العزيز ، الذي أثبت لنا صِحةَ َ نظرية أنَّ الموهبة والعلم في الفن يتكاملان .. فعِلم بلا موهبة ، لن يُنتِجَ فنّا ً .. لكن الموهبة لابُدّ مِنْ أنْ تُصقل بالعلم ، كي نشاهد مارأيناه مِنْ عرضٍ يُبهِرَ العقول قبل العيون ، ويحتل القلوب قبل العقول ، ويتغلغل في الروح قبل الوجدان ، ويرسخ في الضمير قبل الأذهان .
كان هذا العرض المسرحي ( طقوس الحياة والموت ) أشبه بزورق يسبح بنا في نهر مِنَ الموسيقى ، يتدفق مِنْ بداية العرض ، وحتى النهاية ، دون توقف .. موسيقى سحرتنا .. بهرتنا .. سرقتنا مِنْ أنفسنا .. وعندما توقفت مع نهاية العرض ، جعلتنا نتساءل : هل ماشاهدناه .. أقصد ما عشناه ، كان حُلما ً ، أم واقعا ً ؟ .. كان وهما ً ، أم حقيقة ؟ .. وإذا ماكان حُلما ً ، فلِم َ أفقنا ؟ .. وكيف أفقنا ؟ .. أفقنا على تصفيق الجمهور المذهول .. بحق كان عرضا ً ، أقصد كان حُلما ً ، ليتهُ لم ينتهي .. لقد جعلتنا الموسيقى المواكبه للعرض لا نشاهد عرضا ً مسرحيا ً ، بل وكأننا نُشاهد عرضا ً سينمائيا ً ، على الرغم مِنْ أنَّ المُخرِج وأ ُجزِم لمْ يستخدم على الإطلاق أيّة تقنيّة سينمائية ، ولا حتّى خِدَع ٍ مسرحية .. ولمْ يلجأ إلى الإبهار كي يُخفى عيبا ً ، أو ضعفا ً ، أو انهيار .. بل كان العرض مسرحيّا ً ، صِرفا ً .. بحتا ً .
لقد تضافرت الموسيقى مع السينوغرافيا مع إضاءة البارع د . رامي بنيامين ، الذي رسم لنا تابلوهات بالألوان ، والظلال .. رامي بنيامين كان يعزف سيمفونية الضوء واللون .. قدّم لنا هنا عزفاً بالضوء دون إبهار ودون إقحام .. وأعتمد بالأساس على الضوء الأحمر ، برمزية الإستشهاد ، والأزرق الحالم ، برومانسيته ، وشاعريته ، والأبيض الأبيض بنقائه وشفافيته .. وكانت أضواءه التى أجاد توظيفها لواقع الحال والأحداث ، بالغ الأثر والتأثير على وفي نفسية المشاهدين .. يبدو لي أنّ هذا الفنان يحوز على ضوء داخلي أنعم الله به ِ عليه فلم يستأثر به ِ لنفسِه ، ولم يبخل به ِ علينا .. هنا تبرز أيضا ً عبقرية إمتزاج الموهبة بالعلم .. صقل الموهبة بالدراسة ، والعلم ، وتنمية الموهبة بالخيرة والممارسة ، فلا شىء يأتي من فراغ .
تحيّة مِن ْ الأعماق للفنانة / كريمة بدير ، مُصممّة الحركات ، وراسمة التابلوهات الراقصة ، في العرض .. كانت كريمة ، بالفعل كريمة .. إسما ً على مُسَمّى .. كريمة إسما ً ، ووصفةً وفعلا ً ، وفِكرا ً ، وخيالاً ، وابتكارا ً ، وإبداعا ً .. فلم تبخل علينا الكريمة كريمة بما أجادت به ِ موهبتها ، وقريحتها ، وخيالها الثريِّ ، خاصة رقصة الدويتو بين الثنائي الممثلة / نُهى لُطفي ، والمحترف / ميدو آدم .. ذلك الراقص الوسيم ، الموهوب ، المُتألق ، صاحب الطّلة البهيّة .. الوسيم ، والجميل شكلا ً ، ومضمونا ً، الذي بدا بقوامه الممشوق ، وقامته الفارعة ، وجسده الرشيق ، وحركاته الإنسيابية المتناسقة ، وحيويته المتدفقة ، وكأنه من فرسان العصور الوسطى ، أو من أمراء عصر النهضة ، أو ملاك هبط علينا من كوكب عُلويّ .. لن أبالغ لو قلت بدا ‘‘ ميدو آدم '' وكأنه ليس من سلالة أبينا آدم ، بل كائن نوراني ، وليس مِن ْ جِنس البشر ، من فرط توهجه ، وتألقه على المسرح ، وهذا هو سحر الفن ، وسِر الفن .. وإعجاز الفن .. فقدّم لنا مع ‘‘ نُهى لُطفى " تابلوها ً راقصا ً ، في غاية الروعة ، والمُتعة ، في رقصة أقرب للتانجو .. لعبا فيها معا ً بعقولنا ، وقلوبنا ، ومشاعرنا ، وتمنينا لو لم تنتهي تلك اللوحة الإنسانية مِن فرط جمالها .. ولكن لأنّ المخرج الفنان البارع ، ومايسترو العرض ، وربان السفينة / مازن الغرباوي ، كانَ يُمسك بالدفة ، والمجداف ، ونوتيّا ً يقظا ً لإيقاع العرض ، فكان يقمع شهوته ، وشهواتنا ، كيّ لا يضعف أمام جمال مشهد ، على حساب مشهد آخر ، للحفاظ على جماليات العرض الكُليّ ، والخط العام .. كان كل شىء عند ‘‘ مازن الغرَباوي " بميزان ، وحسابات ، وعينه وحِسّه ُ على الإيقاع العام ، وكأنه ترزيّ ماهر يُطرّز ُ تُحفة ً من الدانتيلا .. وبعقل فنان ٍ واع ٍ يقظ ، لمْ تُسكِرهُ نشوة النجاح ، ولا خمر الثناء والمديح ، فكان قويا ً وجسورا ً ، مقداما ً ومتمكنا ً .. واعيا ً ، وواثقا ً ، فلم يلجأ إلى الإبهار .. ويرجع ذلك مِن ْ وجهة نظري أن نقاط القوة عند مازن الغرباوي المخرج : 01 أنّه ُ يُجيد إختيار الممثلين .
02 يُجيد إنتقاء الفنانين والفنيين .
03 أنه صاحب رؤية منذ القراءة الأولى للنص .. الرؤية الفنية لمنهج
وأسلوب الإخراج لديه واضحة وصافية في ذهنه ، وغير مُشَوّشَة
04 لا يترك شيئا ً للظروف ، أو المصادفة ، أو للهوى ، والمزاج ، أو
كما يُقال على حسب الريح ....
إنّ مازن الغرَباوي بحق ، ذلك المخرج الشاب ، والواعد ، إستطاع في سنوات ٍ قليلة ، أنْ يُحَقِقَ قفزات كبيرة ، ليحفر إسمه إلى جوار أسماء مخرجينا الكبار : كرم مطاوع ، سعد أردش ، نبيل الألفي ، جلال الشرقاوي ، سمير العصفوري ، وأحمد عبد الحليم .. أحمد الله أنّ مازن الغرَباوي أثبت لي بالدليل ، وباليقين ، أنّ مصر وَلاّدَة .
أما الأيقونة ‘‘ نُهى لُطفى '' جعلتني بعد إنتهاء العرض ، ومِنْ فرط حماسي ، أقول لها :
‘‘ يانُهى .. ياإبنتي .. لقد جعلتني أ ُحِبُ مصر أكثر .. وأنا البعيد ُ عن عنها طوال ثمانية وثلاثون عاما ً .. نُهي .. لقد أحببت ُ مصر الليلة مِنْ خلالِك كما لم أ ُحِبّها مِنْ قبل .
وفي إلتفاتة ٍ ذكية ، وحضارية ، مِنَ الفنانين المصريين ، بعد إنتهاء العرض ، يتعانق العلمان المصري ، والجزائري ، تعبيرا ً عما تُكنه مصر الثورة ، ومصر التاريخية الناصرية للجزائر شعبا ً ، وحكومة ، ومسئولين ، وامتنانا ً للحفاوة ، وكرم الضيافة التي قُوبِل َ بها فنانوا مسرح الطليعة المصري على أرض الجزائر .. كل ذلك وسط تصفيق الجماهير الغفيرة ، حيث التهبت الأكُفُّ بالتصفيق ، تقديرا ً ، وإعجابا ً ، وإنبهارا .. يُتوّج ذلك كلّه الكلمة الإرتجالية للفنان الكبير / فتوح أحمد ، رئيس الوفد المصري ، ووكيل وزارة الثقافة ، ورئيس البيت الفني للمسرح بمصر ، بتلقائيته حيث نبعت كلماته العفوية من القلب بكل ماتحمله من دفء ، وحرارة ، وصدق ، لتصل إلى قلوب كل الأشقاء الجزائريين ..
شكرا ً مازن الغرباوي .. شكرا ً لفناني ، وفنّيي عرض ( طقوس الحياة والموت ) .. شرفتمونا .. رفعتم رؤوسنا .. رفعتم رأس مصر .. لقد كنتم خير سفراء ٍ لمصر .. بل كنتم أفضل سفراء فوق العادة أنجبتهم مصر .. بل قمتم بما لم يقم به الكثير من الساسة ، والدبلوماسيين ..

*أستاذ الإلقاء المسرحي بالمعهد العالي للفنون الدرامية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.