مشكلة روسيا مع الغرب مشكلة استراتيجية تاريخية تاريخياً كانت روسيا هدفاً استراتيجياً للغرب الذي لم يعتبرها دولة تنتمي إلى أوروبا بل هي أقرب إلى آسيا. هذا بالإضافة إلى أنه من الناحية الجغرافية كانت سلسلة جبال الأورال في غرب روسيا تمثل مانعاً استراتيجياً ضد حملات الغرب العسكرية وكان آخرها عندما حاولت ألمانيا غزو روسيا في الحرب العالمية الثانية. وقبل ذلك في بداية القرن 18 غزا نابليون روسيا، إلا ان قواته بعد أن دخلت موسكو وأحرقتها، رُدت غرباً وتمت هزيمة أمبراطور فرنسا الكبير في معركة واترلو 1815، كما تم دحر النازيين، في الحرب العالمية الثانية حتى الروس سبقوا الحلفاء في دخول برلين في أبريل 1945، قبل أن تضع الحرب الكونية الثانية أوزارها، بأيام. روسيا، أيضاً من الناحية التاريخية مختلفة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً عن الغرب. لم تشهد روسيا حكماً ديموقراطياً له فرصة للاستمرار إلا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حتى ان الكثيرين يشككون في قدرة الديموقراطية اليوم على الاستمرار في روسيا، ويستشهدون بمحاولات الرئيس بوتين البقاء في السلطة كرئيس للوزراء كمرحلة انتقالية للعودة من جديد إلى سدة الرئاسة، هذا بالإضافة إلى ضعف البنية الاقتصادية والاجتماعية لروسيا، مقارنة بدول غرب أوروبا رغم الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده روسيا في فترة التحولات السياسية الليبرالية التي حدثت مؤخراً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. من هذه الخلفية التاريخية والسياسية والثقافية لروسيا، التي ترسم محددات أولوياتها الاستراتيجية تنظر روسيا بعين الريبة والشك إلى محاولات الغرب بتوسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً بالاقتراب من روسيا والتعدي على مجالها الحيوي في شرق أوروبا وبحر البلطيق. ليس فقط هذا التوسع الاستراتيجي بل انها تنظر بعين الريبة والشك، أيضاً إلى توسع الاتحاد الأوربي، الذي تسيطر عليه دول غربية تُعد خصماً تاريخياً لروسيا مثل فرنساوألمانيا بنفس القدر من الريبة والشك. ولم تنجح تطمينات الغرب الاستراتيجية، بعقد معاهدات عدم اعتداء أو الحد من التسلح.. ولا إغراءات الغرب الاقتصادية، مثل محاولة ضم روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى وإعطائها ميزة تفضيلية لدى مجموعة الاتحاد الأوربي أن تجعل روسيا تتغاضى عن أي سلوك من الغرب تعتبره مساساً بمحددات أمنها القومي. أو تعدياً على مصالحها الاستراتيجية في مجالها الحيوي في أوروبا الشرقية.من هنا تأتي هذه (الهجمة الروسية المرتدة)، تجاه الغرب، التي وصلت ذروتها أمس عندما شن قائد أركان الجيوش الروسية الجنرال يوري بالوفيسكي هجوماً على الغرب متهماً إياه باستخدام معاهدة القوات التقليدية في أوربا ضد بلاده محذراً من أن روسيا سترد في حال نشر الغرب درعه الصاروخي في شرق أوروبا، مما يلقي بظلاله لعودة أجواء الحرب الباردة من جديد. روسيا تعتبر هذا الإجراء، لو اُتخذ موجهاً من الناحية الاستراتيجية ضدها، وليس ضد ما تسميهم واشنطن بالدول «المارقة» في النظام الدولي، مثل: إيران وكوريا الشمالية. يعكس حالة العداء التقليدي مع الغرب، الذي لم تنجح محاولات إزالة التوتر بينهما، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. بالإضافة إلى هذا التفسير الاستراتيجي للسلوك الروسي الجديد تجاه الغرب، بسبب محاولاته نشر درع صاروخي هناك تفسير سياسي آخر وثيق الصلة بالممارسة السياسية، في موسكو. الرئيس بوتين يحاول جاهداً أن يبقى في السلطة ويعود إلى سدة الرئاسة، بعد نهاية ولايته الثانية، في يناير القادم، عن طريق تقلده لمنصب رئيس الوزراء. إثارة هذه «الغيرة» القومية لاستعادة دور روسيا التقليدي في أوروبا والعالم، الذي افتقدته بسقوط الاتحاد السوفيتي، يلقى ترحيباً من قطاعات كبيرة في المجتمع الروسي، مما يساعده على العودة إلى سدة الرئاسة من جديد بعد إجراء التعديلات الدستورية اللازمة، التي تبدو ممكنة بفضل تمتع حزبه بالأغلبية في البرلمان. اعتبارات استراتيجية وسياسية داخلية جميعها تكاملت لتفسير هذا التوجه «الصدامي» الجديد لروسيا تجاه أعدائها وخصومها التقليديين في الغرب، عن العودة لأجواء الصراع التي كانت سائدة في فترة نظام الحرب الباردة. بالتأكيد، إذا ما نجح الرئيس الروسى وحزبه في الاستمرار في هذه المواجهة مع الغرب، فإن عهده الجديد، سوف يحاول استعادة بعض المكانة الاستراتيجية لروسيا في النظام الدولي... وشيئاً فشيئاً تتمكن موسكو من استعادة القدرة على المنافسة الكونية في النظام الدولي... وهذا، بدوره سوف يأذن بإعادة هيكلة نظام القوى في المجتمع الدولي وإضعاف تطلعات الولاياتالمتحدة في الهيمنة الكونية، مما يقود في الأمد المتوسط والطويل، إلى استعادة النظام الدولي لاستقراره.. وتنتهي فترة ما تسميه واشنطن فترة الفوضى «البناءة»، التي أشعلت النيران في كثير من مناطق العالم، دون إمكانية واشنطن للسيطرة على امتداد ألسنتها خارج مناطق اشتعالها، دعك من قدرتها على إطفائها.