صدر التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية برعاية مؤسسة محمد بن عيسي الجابر وبوجود اليونسكو كشريك ثقافي. وقد صدر جزء كبير منه في مشروع كتاب في جريدة مؤخراً في مجلة العربي الكويتية. دائما ما يبدو مصطلح «التنمية الثقافية» مغرياً بالقراءة، إلا أنه أيضاً المصطلح الذي تنبع منه جميع إشكاليات العالم العربي. فلا هناك تنمية ثقافية حقيقية ولا أحد مستعد أن يبذل مجهوداً في تنمية عقول ولا من مناد ولا من مجيب، التنمية الثقافية بالنسبة للعالم العربي مشروع فاشل أو طفل أبرص يحاول الجميع تجنبه والحديث عنه. يضم التقرير خمسة ملفات رئيسية: المعلوماتية كرافعة للتنمية الثقافية، التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي، الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام، الإبداع، وأخيراً الحصاد الفكري السنوي، وهو الملف الذي تولاه المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، ويتضمن نقاطاً لافتة للنظر تستحق إعادة التذكير. لابد بداية من الإشارة إلي أن هذا التقرير، وبالتالي الحصاد الفكري، يتناول ما وقع في عام 2008 ولكن الغريب أن تغيير التاريخ علي التقرير لن يحدث أي فرق، وكأن العالم العربي يعيد إنتاج جميع إشكالياته دون أن يصل إلي حل في أي واحدة منها ودون أن ينتج إشكاليات جديدة تتماشي مع الإيقاع السريع للعالم بأكمله. يركز الحصاد الفكري علي المحاور المتصلة بالتفاعل الثقافي، كالمؤتمرات التي أقامتها مؤسسات بحثية أو أكاديمية، والملفات الفكرية المنشورة في المجلات، والمادة الفكرية المترجمة من لغات عالمية إلي العربية. وقد تناولت هذه المحاور الثلاثة العديد مما أسماه التقرير «الأسئلة المألوفة»، منها الديمقراطية، ونزاهة الانتخابات، والحريات. الجديد هو أنه هناك وعي بمسألة حرية تداول المعلومات. أما السؤال المألوف التالي فهو التنمية، وجاء في التقرير أن الأزمة المالية الشديدة التي ضربت الولاياتالمتحدة كان لها أثر سيئ علي التنمية في العالم العربي. يلي ذلك مسألة الإعلام ومركزية أدواره في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما يقود إلي طرح إشكالية النظام العربي، الذي لم يكن «في حال من المعاناة الشديدة في أوضاعه الذاتية- في كل تاريخه الحديث، ومنذ قيام أطره المؤسسية في منتصف أربعينيات القرن العشرين- كما هو عليه اليوم من ضعف». يغني هذا القول عن طرح أسئلة أخري مألوفة جاءت في التقرير من قبيل: قضية فلسطين، العروبة والإسلام، والتعليم. وهناك أسئلة ليست جديدة تماما علي الوعي العربي، لكن فيها ما استجد واكتسب أهمية جديدة مثل ظهور قوي دولية جديدة، حيث يؤكد التقرير أن الصين حلت محل روسيا في الاهتمام. أما الأسئلة المستجدة فمنها المعلوم ومنها المفاجئ مثل الأزمة المالية العالمية. لكن الجزء الخطير الذي ينبغي أن يشغل بالنا هو تحول التنمية الثقافية إلي معيار كمي وليس نوعياً، وهو ما يؤدي إلي تذمر الكثير من المثقفين وإعلانهم عدم ثقتهم في الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية، ولهم كل الحق في ذلك. فالمسألة تقاس بالكم ولا يتمخض عنها أي جديد، بل مجرد إعادة طرح لما سبق، أو كما جاء في التقرير: «إن نسبة كبيرة من الموضوعات والأسئلة المطروقة في الأطر الجماعية للتفكير...لم تشهد تعديلات ذات شأن في صيغ طرحها واستشكالها علي نحو يجدد التفكير فيها ومقاربتها من زوايا لم ينظر إليها منها قبل، أو علي الأقل لم ينظر إليها منها بالقدر الكافي من العناية». تنهل الثقافة الآن من إعادة التدوير، وكأن هناك ما يعوق إنتاج إشكاليات معرفية جديدة. الغريب في الأمر أن كل نقاط القوة متوافرة، فهناك الرغبة المؤسسية سواء الرسمية أو الأهلية في دفع الحراك الثقافي إلي الأمام، وهناك الوفرة المادية التي تسمح بإقامة التجمعات الفكرية، وهناك الأماكن الملائمة، وبالطبع هناك عقول قادرة علي ذلك. إلا أن كل نقاط القوة تتحول مباشرة إلي مواطن ضعف كامنة بسبب عدم إنتاج الجديد، والاعتماد علي القديم، وإهمال الجهود السابقة، بل العمل علي نفيها وإقصائها. وذلك كله بالرغم من أن التنمية لا تعني إلا الكشف عن أقصي طاقات يمكن للمجتمع أن يقدمها، كما أنها تعني ضرورة إغلاق الملفات المستهلكة التي تكاد تكون منقرضة إلا في بلادنا. ويكفي أن نتابع النقاش الحادث بعد أي ندوة أو أي جلسة في مؤتمر لندرك أن العالم العربي مغرم بالندب علي الماضي، وهو قادر علي صنع الدراما الخاصة به التي تميزه دائما عن غيره.