التحاليل الطبية من أهم فروع الطب التى يتوقف عليها صحة تشخيص المريض، ومن ثَم علاجه، فإن كانت نتيجة التحاليل دقيقة ومعبرة عن حالة جسم المريض؛ كان العلاج الذى يصفه الطبيب تبعا لها ناجعا وشافيا بإذن الله، وإن كانت غير ذلك فلا فائدة ترجى من تناول العلاج الذى وصفه الطبيب بناء على النتائج الخطأ. ومما لاشك فيه أن التطور فى وسائل التشخيص المعملى عبر ثلاثين الأعوام الماضية قد أثر إيجابيا على قدرة المجتمع الطبي على مواجهة الأمراض ومحاصرتها، وترتب على ذلك ازدياد أعمار المصريين بوجه عام، وأصبح بالإمكان تشخيص كثير من الأمراض التى كانت فى الماضى لا تكتشف إلا متأخراً، أو لا تكتشف على الإطلاق، فكان المريض يموت دون أن يعرف ذووه أو أطباؤه السبب في وفاته.
ونأتى إلى عرض لبعض مشكلات معامل التحاليل فى مصر:
أولاً: منذ الربع الأخير من القرن الماضى؛ ومع التطور الهائل فى تقنيات معامل التحاليل ، والتقدم الملحوظ فى طرق إجراء الاختبارات؛ والاعتماد على الأجهزة الأوتوماتيكية والرقمية والكمبيوتر فى إجرائها؛ ازدادت أعداد معامل التحاليل بشكل ملحوظ، فقد بلغ عدد معامل التحاليل فى القاهرة وحدها أكثر من عشرة آلاف معمل، البعض منها مرخّص له من وزارة الصحة، والكثير منها غير مرخص له من الأساس.
ثانياً: كثير ممن يرخص لهم بالعمل كأطباء تحاليل؛ ليسوا أطباء بشريين، فمنهم من تخرج من كليات الطب البيطرى والصيدلة والعلوم والزراعة، ومنهم من تخرج فى المعاهد الفنية الصحية، وهؤلاء جميعا لا يجمعهم سوى ممارسة مهنة التحاليل الطبية، ومجال ممارستها هو جسم وصحة المواطن المصرى، الذى يبدو ألا فرق بين كيمياء أجهزة جسمه وكيمياء أجسام المخلوقات الأخرى، وهذه بالطبع ظاهرة لا يمكن أن تجدها فى أى من دول العالم التى تحترم مواطنيها، أو على الأقل هناك فرق فيها بين الطب البشرى والبيطرى، ففى الولاياتالمتحدةالأمريكية ؛ لا يستطيع الطبيب البشرى ممارسة مهنة التحاليل الطبية على (بنى الإنسان) إلا بعد الحصول على شهادة البورد الأمريكى بعد دراسة وعمل فى المستشفيات لخمس سنوات، وفى بريطانيا؛ يجب الحصول على شهادة زمالة وعضوية كلية الأطباء الملكية فى علم الأمراض، ودراستها أيضا لا تقل عن خمس سنوات بعد بكالوريوس الطب والجراحة، وفي مصر؛ يقضي الطبيب البشري 5 – 10 سنوات بعد البكالوريوس في دراسة الماجستير والدكتوراه في التحاليل الطبية.. وهكذا فى معظم دول العالم.
أما فى مصر؛ فلعظيم الأسف؛ لا فارق عند جهات ترخيص معامل التحاليل بين الجسم البشرى والأجسام البيطرية، ولا يحتاج المرء ليمارس التحاليل على بنى مصر إلا أن يكون على دراية ببعض اختبارات الكيمياء، ومعرفة متواضعة بوظائف أعضاء الإنسان، ثم سيأتى التعلم وكيفية التعامل مع عينات المرضى بعد ذلك بالخبرة والتكرار، ولا يهم نوعية أو دقة نتائج التحاليل، ولا يهم ما يترتب عليها من وصف علاج خاطئ، ولا يهم إن مات المريض أو عاش أو عجز، فالهدف فى النهاية هو الربح من أى طريق، بغض النظر عن النتائج، سنجد من يقولون: إن مهنة التحاليل ليست وثيقة الصلة بالطب لتقتصر ممارستها على الأطباء، بل (يفهم) فيها العلميون والبيطريون والصيادلة، وطبعا سيعتمد من يقولون ذلك على فيلم (آه من حواء)، حين عالج رشدي أباظة؛ الطبيب البيطري؛ لبنى عبد العزيز من الإسهال مستخدما أدوية ولجام الحمار!
ثالثاً: معظم المنشآت الطبية المعملية في مصر هي استثمار لأفراد، وهو ما دعا أصحاب المعامل إلى تسويق خدمات معاملهم، على اعتبار أن تقديم خدمة التحاليل الطبية هو خدمة تجارية تستوجب تسويقها بين الناس، تماما كالمناديل الورقية وزيت عباد الشمس، وتواكب هذا الاتجاه مع نشأة الكيانات العملاقة فى مجال التحاليل، وهو ما أشعل (سوقها) فى مصر، وأصبح التنافس على التعاقد مع الشركات والبنوك والهيئات الحكومية وغيرها هو الهدف الأسمى الذى يسعى إليه المسوقون لمعامل التحاليل، ووصل الأمر حداً غير معقول، حين قامت الهيئات الكبرى والشركات بإجراء مناقصات بين المعامل على أسعار التحاليل، ويفوز بالتعاقد مع الشركة المعمل الأقل سعراً !
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى ما هو أبعد وأضل سبيلا؛ فلكى تحظى معامل التحاليل بأكبر قدر من تحويلات الأطباء؛ أقدمت على الاتفاق مع الطبيب الذى يحول مرضاه إليها؛ أن تدفع له نسبة من ثمن التحليل الذى تتقاضاه من المريض، وهذه النسبة تصل فى بعض الأحيان إلى نصف ثمنه، يحصل عليه الطبيب من المعمل نظير تحويل المريض إلي معمل بعينه، وهذا يؤثر بالتأكيد على نوعية المواد المستخدمة فى المعمل، إذ يجب أن تكون أقل سعراً، لكى يعوض المعمل ما دفعه للطبيب، الذي يطلب بدوره من المريض اختبارات أكثر عددا وسعرا ولا فائدة منها، لمجرد أن تزيد نسبة ما يحصل عليه من المعمل.
وبعد.. أعتقد أنني نكأت جرحا استعصي على العلاج في العقود الماضية، فقد هان الإنسان المصري على حكوماته المتعاقبة، إذ لا فرق لديها بين الطب البشري والبيطري، وأصبحت حياته رخيصة مهانة، وليذهب الأطباء بسنوات أعمارهم الضائعة فى دراسة الطب البشري إلى الجحيم، فمهنتهم مستباحة، وباب ممارستها مفتوح لكل من هب ودب. ولا عزاء للتحاليل الطبية، واسلمي يامصر..