أصيبت مصر منذ ما يقرب من ستين عاما بداء كالسرطان، بل هو أخطر أنواع السرطان التى يمكن أن تصيب جسد أمة! إنه مرض الحصانة اللعين الذى يتطابق مع مرض السرطان فى عدة أوجه؛ فهو ينتشر فى أنحاء الجسد مثله، ويقضى بمرور الأيام على مناعة المريض (الوطن) حتى تنعدم، وينهار الجسد المريض (البلاد) مع تمكن المرض من كل وظائفه، وقد يسهم استئصال الورم الأصلى (الرئيس السابق) فى العلاج، ولكن يبقى المرض كامنا فى أماكن أخرى (المحصّنون)، ليعود وينتشر مرة أخرى مدمرا المنعة والقوة والحياة بأسرها، وحتى إن كان ثمة علاج مؤقت بالأدوية والعقاقير (الخطب والتطمينات) التى قد تداوي بعض الأعراض؛ فهى لا تقضى على المرض نهائيا، ولها من الآثار الجانبية الرهيبة ما قد يكون أشد إيلاما من المرض نفسه! ولفظة (الحصانة) فى المعجم الوسيط هى مصدر الفعل (حَصُنَ) بمعنى مَنُعَ فهو حَصين، وأُحصن الرجل أى عفّ وتزوج فهو مُحصَن وهى مُحصَنة، وتحصّن من المرض أى اتخذ الحيطة والوقاية منه، وحَصّن الشئ أى حماه، والحِصان الذكر من الخيل، وأبو الحُصَيْن كنية الثعلب... هذه الإفاضة فى شرح معانى الكلمة واستخداماتها المختلفة هى فقط لبيان أن استخدام الكلمة فى الحياة المصرية لم يدل على أي من هذه المعاني ! فقد استخدمت لوصف استحالة مساءلة الشخص الذى يتمتع بها ويمارسها مهما بدر منه، ومهما فعل أو تصرف أو تفوه!
بدأت إصابة مصر بالمرض العضال عندما قفز على مقعد السلطة فيها أعضاء مجلس انقلاب يوليو، بعد انقلابهم على الرئيس محمد نجيب أواخر عام 1954، إذ تمتع أعضاء مجلس الانقلاب ممن حكموا البلاد بالحصانة، فلم يكن يجرؤ إنسان على مساءلة أحد منهم أو مراجعته فيما يفعل، حتى بعد أن منيت مصر بهزيمة يونيو 1967 وحلت الكارثة؛ لم يقدر على محاسبة المخطئين أحد، أتدرون لماذا؟ لأن المسئولين عن الهزيمة؛ بدءا من الرئيس القائد الأعلى الواحد الأحد؛ ووزير دفاعه القائد العام، حتى أصغر ضابط تمتعوا بالحصانة، والوزراء الذين أوقف العمل بقانون محاسبتهم منذ عام 1958، والمدراء ورؤساء الهيئات والمحافظون اكتسبوا هذه الحصانة، وشكل هؤلاء؛ مع أعضاء مجلس الأمة البذور الأولى لغابةٍ من زقّوم الحصانة، بدأت فى الانتشار فى المجتمع المصرى، فعائلاتهم وأقاربهم ومحاسيبهم، والمتزلفون على عتباتهم ولاعقو أحذيتهم وحاشياتهم؛ كلهم تمتعوا بالحصانة.
وانقضى العصر بموت الرئيس، وجاء النائب ليجلس على مقعد السلطة، وجاء معه أهل ثقته الموالون له، فاتسعت دائرة الحصانة، حتى إننى أذكر فى أواخر سبعينيات القرن الماضى فى أعقاب زيارة الرئيس للقدس، دارت مناقشات حامية فى مجلس الشعب حول الزيارة المثيرة، وقام أحد كبار الشيوخ على رؤوس الأشهاد ليقول عن الرئيس: (هذا الرجل لا ينبغى أن يُسأل عما يفعل)، فقام شيخ آخر ليرد عليه: (لا أحد فوق المساءلة يا شيخ ....)، فأسكته الشيخ الأول والحاضرون وأجلسوه رغما عنه؛ إذ كيف يتعدى على شخص الرئيس؟ إنه فوق المساءلة، ولا تجوز مناقشته، أليس هو المعصوم صاحب الحصانة الأول؟
وانتهى العهد بمقتل الرئيس، وجاء نائبه (مُحصّن جاهز)، وحين يكون الرئيس محصّنا؛ فكل من فى رَكْبه يصبح محصّنا، ومع حصانة الوزراء والضباط فى الجيش والشرطة وحصانة أعضاء المجالس النيابية وحصانة القضاء؛ تضاعفت أعداد من يتمتعون بها، واستطاع رجال الأعمال وأعضاء الحزب الحاكم شراء الحصانة، وهنا لى وقفة مع حصانتين، أو بالأصح مع فئتين حصل من ينتمون إليهما على الحصانة، وكان لهما التأثير الأبشع على مجريات الحياة فى مصر؛ الشرطة والقضاء.
قبل أن أكتب عنهما، يجب أن نتفق على مبدأ مهم، بل هو الأهم فى التنظيم الإلهى لقضية الحصانة، القانون الإلهى الذى أرسى الإسلام قاعدته هو: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) – الأنبياء 23 ، الله تبارك وتعالى هو الواحد الوحيد المتفرد بالحصانة من المساءلة عما يفعل، وكل الخلق يُسألون، لا أحد – بمنطق الدين - معصوم أو فوق المساءلة.
أولى الفئتين جهاز الشرطة، فحين يتمتع الوزير بالحصانة ولا يسأله أحد أو يملك أن يحاسبه عما يفعل؛ تصبح الحصانة سُنة معظم من يعملون فى وزارته، فلا يجرؤ أحد على سؤالهم أو مساءلتهم أو محاسبتهم، وكلما طالت المدة التى يقضيها الوزير المحصّن فى منصبه؛ كلما ازداد تفشي المرض فى جسد العاملين معه بكل مستوياتهم، من أكبر ضابط إلى أصغر عسكرى أو موظف فى المرور، ويستحيل تطبيق القانون إلا على الغلابة معدومى الحصانة، لأنهم معدومى القوة، وهنا أذكر مثالا صارخا من العهد البائد؛ أعرف ضابطا ظل يقود سيارته لسبع سنوات دون أن يستخرج لها ترخيصا بالسير، وبالطبع لا يجرؤ ضابط أن يسأل زميله عن رخصة السيارة ! وهذا مثال بسيط لما يمكن أن يفعله العاملون المتمتعون بالحصانة فى وزارة الداخلية، فرِشوة المحصّنين، والمحسوبية والوسائط لديهم أصبحت سمات مميزة لكيفية التعامل معهم، ويصبح من الصعوبة بمكان أن يحصل المواطن على حقه دون أن يشخشخ جيبه ويفتح دماغه، وتمكنت بعض الإدارات فى جهاز الشرطة من مقاليد العديد من الأمور العجيبة التى لا يمكن أن يتمكنوا منها إلا بما يتمتعون به من حصانة، فسيطر جهاز أمن الدولة السابق مثلا على التعيينات فى الوظائف الحكومية، وعلى رؤساء الجامعات وعمداء الكليات والمعاهد، بل وعلى بعض الوزارات غير السيادية كالتعليم مثلا، ألم يسألك أحد معارفك مرة: متعرفش حد فى أمن الدولة؟ فتسأله عن السبب، فتكون الإجابة: أصلى عايز أدخل الواد المدرسةوعايز توصية ! وإن واجهت مشكلة فى تركيب عداد الكهرباء، أو فى استخراج تصريح بناء أو تعلية، أو مساعدة فى قسم الشرطة، أو فى ترخيص السيارة والمخالفات، إلخ... لن تحتاج لأكثر من معرفة ضابط أو أمين شرطة من ذوى الحصانة الذين يستطيعون فعل الأعاجيب ... أما الفئة الأخطر فى تمتع أصحابها بالحصانة فهى القضاء والنيابة، بداية.. من يحاسب القاضى ذا الحصانة إن أخطأ ؟ الإجابة: التفتيش القضائي ذو الحصانة التابع لوزير العدل ذى الحصانة، والسؤال التالي: ومن يحاسب التفتيش القضائى؟ الإجابة: رئيسه وزير العدل، فالرئيس صاحب الحصانة الأول ! لقد جعل النظام العجيب فى مصر من القضاة ومن يحاسبهم آلهة فوق القانون، لا يُسألون عما يفعلون، فمن يستطيع أن يستوقف معاون نيابة (لسة متخرج) فى الشارع يسأله أو يحاسبه على مخالفة ارتكبها.. مثلا ؟ ناهيك عن أن يكون قاض أو رئيس محكمة، أعرف قاضيا قاد سيارته الجديدة أشهرا دون لوحات معدنية! طبعا.. فمن يجرؤ على محاسبته، أليس محصّنا؟ وإن سأله ضابط أو أمين شرطة؛ أخرج له بطاقة القضاء ليراها من بعيد، .. إتفضل يا باشا، هذا على المستوى الفردى، أما على المستوى المهني؛ فهذا أخطر ما فى الحصانة التى يتمتع بها القضاة..
النظام القضائى المصرى يعتمد إصدار الحكم فيه على ضمير القاضى، ومدى استقراره واقتناعه وارتياحه للحكم، والمصيبة تكون حين يكون ضمير القاضى غير سويّ، فيطلق الأحكام التى تنال من حرية الناس وتدلس للحاكم، وتضع المنصة إذّاك نصب عيونها إرضاءه وسحق معارضيه، فيضل العدل طريقه، ويقنن الفساد وتربو أشجاره الشيطانية فى كل الطبقات، وعلى كل مستويات التعامل، ولا عجب.. فحصانة القضاة أدت إلى الكيل القانوني بعدة مكاييل، وهو مايذكرنى بأبيات جبران خليل جبران:
والعدل فى الأرض يُبكى الجن لو سمعوا به ، ويستضحك الأموات لو نظروا فالسجن والموت للجانين إن صغروا والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
فسارق الزهر مذموم ومُحتقَر وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر وكل الفساد الذى نقرأ أخباره ونطالعه صباح مساء، وتتكشف كل يوم مصائبه وكوارثه، هو نتيجة للحصانة التى اكتسبها المفسدون؛ كلٌ حسب طاقته وتبعا لقربه من صاحب الحصانة الأول ومن حزبه ونظامه، ولأن الحصانة والفساد صنوان لا يفترقان؛ تمت كل عمليات الاستيلاء على الأراضى بالتزوير والسرقة تحت عين رجال القضاء؛ ألم تتم عمليات التسجيل كلها فى الشهر العقاري التابع لوزارة العدل؟ وكدست الأموال المنهوبة بمئات المليارات فى البنوك تحت عين رجال القضاء؛ أليس فى الدولة؛ تابعا لوزارة العدل؛ نائب عام ونيابة إدارية وأجهزة رقابية وقضاء إدارى؟ أكان القضاة العاملون فيها عميانا؟ أم تعامَوا إن جاز التعبير؟
أما من لا ينال الرضا وينأى بنفسه عن نيل هذه الحظوة المحصِّنة؛ فلا مكان له إلا بين الفقراء والضعفاء، ويدوخ الدوخات السبع ليحصل على حقه، أو يستعين بمن له من الحصانة ما يكفل له تحقيق مآربه بالرِشى والمحسوبية والكوسة..
إن كل ما نعانيه وسنعانى آثاره هو النتاج الطبيعى من تزاوج السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، كلٌ بحصانة أعضائها والعاملين فيها، فوُلد فى نهاية حملها كائن مشوّه إسمه (الفساد).
إننى أتمنى على الرئيس محمد مرسي أن يلغي ويزيل من مصر جميع أنواع الحصانة، التشريعية والوزارية والشرطية والقضائية والنيابية والعسكرية والإدارية والمحلية، وأن يقتصر التمتع بها تحت سقف الهيئة أو الوزارة أو تحت قبة المجلس، حتى لا يكون فى مصر إنسان فوق المساءلة، فيكفينا ما عانينا منه عبر ستين عاما من (الحصانوساركوما)، من خراب الديار ودمار الذمم، وبيع العام ونهب الخاص، وانعدام القيم وانهيار الأخلاق.. ولا زالت الحقائق تتكشف.. واسلمى يا مصر.