«كرتونة البيض بقت ب30 جنيه».. قالها وهو يضع الكرتونة على الرخامة، فدققت زوجته النظر إلى وجهه لتستكشف ما وراء الجملة من انفعال، وجدت نصف ابتسامة فخمّنت أن زوجها يشكو ويسخر فى وقت واحد، ثم سرعان ما ذابت الابتسامة فخمّنت أن باب التفكير فى أحوال المعيشة ككل، قد انفتح فى مخه، نظر إلى ساعة المطبخ العطلانة، فقالت يبدو أنه غير مهتم أصلًا، ثم طلب منها أن تعد له كوبًا من الشاى، فأيقنت أنه مشوّش تمامًا. لا بد أن يُقلع عن التدخين، لم يطلبها منه أحد، لكنه بات يشعر أن منظر السيجارة فى يده لم يعد جذّابًا كما كان، وحده الشاى كان يمحو الفكرة من ذهنه مؤقتًا، يفكر أنه لا بد أن يقلع عن الشاى أيضًا. تكوّر فى أحد أركان الكنبة أمام الجهاز.. كان أستاذ علوم السياسة يقدم برنامجًا يحمل اسمه، سأل نفسه ما الذى يدفع مثل هذا الرجل إلى أن يعمل مذيعًا؟ ما الذى ينقصه؟ لو الشهرة، فهو يستطيع أن يكون ضيفًا فى برنامج كل يوم، ولو المال فهو يستطيع أن يحدد أجرًا له كضيف، خصوصًا أن البرامج كلها تتهافت على ظهوره، لأنه بارع فى تخصصه، فما المبرر لأن يشغل مكانًا ليس له؟ لماذا ينزل درجة أقل، ويتحوّل من شخص تثرى مداخلته التليفونية الحوار إلى شخص يجلس فى السويتش يتلقى مداخلات ربات البيوت وأرباب المعاشات؟ فكّر إن كان هذا الرجل يشترى البيض بنفسه؟ أم أنه يطلبه بالتليفون؟ فكّر إن كان يطلبه بالتليفون.. هل يتعرف صاحب المحل على صوته من أول جملة؟ وإذا لم يتعرف عليه.. هل يخبره باسمه، قائلًا ابعت البيض على بيت الدكتور فلان؟ البيضة أغلى من جنيه، وهو سعر الجريدة التى تناقش على مساحة واسعة مسألة صلاة الحاكم فى المسجد فى اعتراض من الكاتب على أن خروج الحاكم للصلاة يعطل المرور ويكلف الدول أجر الحراسة الخاصة، الأمر يمكن اعتباره مزحة أو مجرد فراغ ذهنى من الكاتب، إلا أن هناك مَن سهروا الليل على إحدى المحطات يلمحون إلى أن الكاتب لا يعرف طريق المساجد ويدعون له بالهداية وقلوبهم لا تؤمِّن على الدعاء.. كان هذا باديًا فى عيون صاحب الدعاء، فكر فى الشخصين اللذين شغلاه بما لا يمسه على الإطلاق.. الكاتب ومن يدعو عليه (وليس له) بالهداية.. فوجدهما يكملان بعضهما البعض، الصفار والبياض.. هكذا تكتمل البيضة. أمعن النظر إلى الشاشة وهو يتنقل بين القنوات، فشعر كأنها تحجبه عن عالم لا يعيشه، كانت الشاشة أشبه بنافذة الزنزانة الصغيرة، لا هى تمرر له ما يكفيه من هواء، ولا هى أمينة فى نقل كل ما يجرى بعيدًا عن المربع الموجود فيه، وتبدو كأنها مصنوعة من أجله ولمساعدته، لكنها فى الحقيقة لا تشعر به. فى طريقه إلى البيت كانت تسيطر على عقله فكرتان: الأولى، لو أن المليون كيلومتر التى تشكّل مساحة البلد عبارة عن سجادة، فيصحو على قرار من الحاكم بتخصيص يوم الجمعة لتنظيف هذه السجادة، فى البداية يتم طيّها فى شكل أسطوانى لإزالة كل الأتربة والقاذورات التى كان يخبّئها الحاكم السابق تحت السجادة، ثم يتم نشرها فى الشمس المطلّة على البحر لتنظيفها من الحشرات، وفى هذه الأثناء تقوم كل مجموعة بالانكفاء على رقعة مهترئة فى السجادة وإخضاعها لعملية «رفا» تجميلية، ثم يتم نفض السجادة نفضًا متينًا وغسلها بماء البحر، وبنهاية اليوم يتم فرشها «على نضافة»، وحتى تكتمل الروح العامة يأمر الحاكم بأن تتناول البلاد فى هذه الليلة عشاءً موحدًا، وليكن العدس، ثم ينام الشعب ويصحو، ومع بداية اليوم التالى سيتعامل الجميع مع السجادة باهتمام كأى ربة منزل تعبت فى تنظيف سجادتها الأصلية.. ساعتها قد تنصلح الأمور بالتدريج. الفكرة الثانية التى كانت تنغص عليه خياله، هى أنه لا يحب العدس. فكر لو أن الشعب كله تناول البيض فى مساء هذا اليوم. كانت آخر رشفة فى كوب الشاى، فألقى عقب السيجارة فى الكوب وعاد للنقطة نفسها من جديد.. كيف يحصل أستاذ الجامعة على البيض؟