أكتب اليوم تعليقا على الخواطر التى نشرتها فى مقالى السابق والتى جاءتنى من صديقى رامى وتحدث فيها عن شعوره بالغربة النفسية عن مصر،ولكن قبل أن أعلّق..أعتقد أنه من حقك أن تعرف لماذا نشرت خواطر رامى من الأساس هل لأن رامى صديق؟
هل لأنه أفضل من يكتب بين أصدقائى؟
هل لأننى أتفق معه فى كل ما قاله؟
الحقيقة هى أن إجابتى على الأسئلة الثلاثة هى لا
إذا لماذا نشرتها؟؟؟
نشرت تلك الخواطر لأنها تعبرعن مكنون قطاع من المصريين يتزايد حجمه يوما بعد يوم وتحمل فى طياتها إحساسا يتعاظم داخل نفوسهم بمرور الوقت
الإحساس بأنك غريب عن وطن لم تعرف أبدا إذا كنت أنت من تحتضنه أو هو من يحتضنك،وطن حين ترغب فى تشبيهه لا تعرف هل يجدر بك أن تشبهه بالأم التى عليك أن تبرّها مهما فعلت أو ابنتك المشاغبة التى لا تعرف لمحبتها فى قلبك تاريخ انتهاء أو لحنوّك عليها حدا
إحساس عابر لحدود الدين والجنس والجغرافيا والفوارق الاجتماعية والطبقات العلمية
إحساس يضرب المسلمين الذين يشعرون أن وطنهم يتوجّه يوما بعد يوم فى اتجاه رؤية ضيقة ومتعصبة للدين تأخذ من الدين مظهره وتبتعد كل البعد عن روحه السمحة،ويضرب المسيحيين الذين أصبحوا يشعرون كأنهم ضيوف فى وطنهم ..يسمعون كل يوم تحريضا أو استعداءا عليهم ودعوات إلى حرق كتابهم المقدّس والتبوّل عليه إنتقاما لنبى أوصانا بغير المسلمين خيرا وخصّ بالذكر قبط مصر
إحساس يضرب النساء التى لا تستطيع أن تمشى فى الشارع خوفا من التحرّش بشكل دفع إحدى الصديقات أثناء زيارة إلى فيينا أن تقول "أنا مش مصدّقة إنى ماشية فى الشارع كده عادى ومحدش بيبصّلى"،ويضرب الرجال الذين يشعرون بامتهان رجولتهم كل يوم أمام نظرات الحرمان فى عيون أطفالهم أو نظرات اللوم فى عيون زوجاتهم مما دفع أحدهم إلى الانتحار من فوق كوبرى الجامعة لأنه لا يستطيع دفع مصاريف المدارس لأبنائه
إحساس يضرب سيناويا يتهمونه بالعمالة و الإجرام والتطرف ثم ينظر إلى بطاقته فيجد مكان خانة الجنسية كلمة (عربى)، ويضرب نوبيا يعتبره البعض غازيا من أصل غير مصرى،يضرب مواطنا من مرسى مطروح سألته مذيعة (ظريفة) من خلف ابتسامة لزجة يوم مباراة لمصر وليبيا قائلة "ها.....هتشجّع مين النهاردة؟"،ويضرب ثائرا سويسيّا علم ببراءة إبراهيم فرج،يضرب سكندريّا يعرف أن وائل الكومى تمّت ترقيته، ويضرب صعيديّا قريته مكان مثالى لتصوير أحداث فيلم تجرى أحداثه فى بدايات القرن الماضى
إحساس يضرب شابا يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يصارع الموت فى بحر لجّى بعد أن غرقت به سفينة الأحلام المتهالكة قبل أن تصل إلى شواطئ أوربا،ويضرب شابا آخر يصنّفه المجتمع على أنه (ابن ناس) لأنه لا يشعر بأن ثورة قامت على أكتافه قد حققت له صورة المجتمع الذى حلم بها وواجه الموت دون أن يطرف له جفن من أجلها
إحساس يضرب (سرسجيّا) من الذين يخاطبونك ب (آساحبى) جدا لا مزاحا حين يسمع أن أحدا يريد أن يمنعه من قيادة التوك توك الذى يعيش هو و أسرته من قروش يحصّلها من عمله عليه بعد أن بقى زمنا عاطلا بجوار شهادة (الدبلون)،ويضرب طبيبا يفاجأ بمن يقتحم غرفة عمليّاته ليجهز على مريضه المسجّى على طاولة الجراحة بعدة طعنات من سلاحه الأبيض لأن وطنه يؤمن أن تأمين حفلة إليسا أو ماتش السوبر أهم كثيرا من تأمين المستشفى الذى يعمل به
الغريب أن هذا الشعب الذى يشعر بالغربة الآن كان قد قام لتوّه بثورة أذهل العالم فيها بانتمائه والتصاقه بوطنه،كيف يشعر بالغربة الآن؟؟
أهو يا ترى ألم على قدر الأمل الذى عقده على ثورته؟
أم أن الثورة قد أحيت فينا إحساسا كنا حسبناه قد مات منذ زمن بعيد؟
هل استعجلنا الثمرة أم أنها نضجت فعلا لكن هناك من خطفها وركض بعيدا مستأثرا بها؟
ربما هو خليط من كل تلك العوامل،لكن الأكيد أن الوضع أصبح خطيرا جدا،لا أعرف كيف يفتح البرلمان الهولندى مثلا باب الهجرة للأقباط فأجد الموضوع يمر بسلاسة عجيبة وكأن لسان الحال الرسمى يقول "بركة اللى جت منهم"،كبف لا تتخذ الدولة المصرية إجراءا حيال هذا الموقف؟
كيف لا يفزع الرئيس ونائبه ومستشاروه لأمر كهذا؟؟؟
وقبل أن يهذى أحد بكلمة عن انتماء الأقباط لوطنهم والمزايدة على حبهم له وارتباطهم به..أنصحه أن يقرأ تعليقات المسلمين على الخبر فى المواقع الإلكترونية للصحف و شبكات التواصل الاجتماعى ليجد أن سؤالا قلقا يسيطر عليها....."إشمعنى الأقباط....طب والمسلمين لأ ليه؟؟؟؟!!!!"
إننا ننحدر إلى هاوية لن يكون الخروج منها سهلا،فوطننا أصبح طاردا للعقول أكثر من أى وقت مضى. أحدّثك من واقع خبرة حياتية بحكم تواجدى فى مهنة ذات تنافسية عالمية ووسط العديد من الأصدقاء والأقارب المتميّزين فى مجالاتهم
الجميع يهرب...يهاجر...يبحث عن أقرب طوق للنجاة يخرجه من هذا البلد،وطبعا من ينجح فى الهروب هم أفضل الجميع وهكذا يتبقى لنا فقط من عجزت قدراتهم التنافسية على الخروج وقليل ممن منعهم مبدأ أو أعاقتهم ظروف
حين سألنى رامى قبل أسابيع عن رأيى فى عودته إلى مصر كى يأخذ نيابته التى حصل عليها بعد تفوقه على مدار ست سنوات كاملة أهّله مجموعه التراكمى فيها إلى أن يكون أحد أوائل دفعته وضمن له تعيينا بالجامعة لم أستطع أن أنصحه بالعودة،ولا أخجل أن أقول أننى قد نصحته بالعكس،لأننى لا أستطيع أن أشير عليه بالتوقف عن إتمام بحث عالمى من أجل أن يأتى إلى الدمرداش فينسّق مواعيد الإجازات السنوية للأساتذة ثم يتصل بالمدرسين ليخبرهم متى يحل ميعاد حضورهم للراوند وماذا يجب عليهم أن يشرحوا ولا ينسى طبعا أن يهاتف (الراجل بتاع الدش عشان يصلّح الريسيفر اللى فى القسم) ويتلقى فى النهاية مرتبا لا يغطى تكاليف هاتفه المحمول وبنزين سيارته وطعامه!!!
لاحظ أننى أحدّثك عن أحد أوائل خريجى الطب فى إحدى أفضل مستشفيات مصر الجامعية!!
إذا لماذا لم أهاجر أنا؟
لماذا حتى لم أخط خطوات على طريق الهجرة؟
ما ستقرأه فى السطور الآتية لا أعرف إن كان إحساسا أو نظرية تصلح لاعتمادها،هو فقط ما أشعر به وأعتقده
أنا أشعر أن رسالتى فى الحياة هى فى إصلاح هذا الوطن من الداخل وليس فى الخروج منه،رسالتى فى الحياة هى أن أشعر وأنا أفارق هذه الحياة أننى فعلت ما أستطيع من أجل أن يكون هذا الوطن على الصورة التى أرادها هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم من أجله أو أننى أموت دون ذلك
كما أشعر أن الهجرة قد تمنحنى حياة أفضل وفرصة أكبر ونبوغا أعلى لكن هذا يطير فى ميزان نفسى إذا ما وضعت فى الكفة الأخرى حضنا واحدا من أبى وأمى أو عيدا أرى فيه أقاربى أو لحظات من العبث مع طفلة أحدهم أو نزهة نيلية مع أحد أصدقائى أو صلاة فى الحسين أو مظاهرة أشعر فيها أنى على حق أو...أو...أو..
الكلام يبدو رومانسيا وفى نظر البعض سخيفا...أنا أعرف ذلك بالتأكيد حتى أن صديقة كندية من أصل مصرى أخبرتنى ساخرة ذات يوم حين قلت لها أننى أفضل الموت هنا على الحياة هناك ب (ساعتها هبقى أجيبلك ورد)
هل تظل هذه القناعات صامدة أم تتحول مع الزمن؟؟
أنا فعلا لا أعرف...لكن ما أعرفه أننى لا أحسب علاقتى بهذا الوطن بمقاييس الأخذ والعطاء المعروفة،فأنا أعتقد أن ما يسرى فى دمائى ويجعلنى من أنا هو بعض من روح هذا الوطن لذا فالموضوع بالنسبة لى ليس فرصة عمل أو باسبور يمنحنى القدرة على دخول العديد من البلدان دون فيزا...الموضوع أننى أشعر وكأنى قطعة من طين هذا الوطن منحها الله الحياة فصارت إنسانا يروح ويجىء لكنه لا يستطيع أن يبعد عن تربته التى صنع منها
حتى لحظة كتابة هذه السطور وأنا ممتلئ بالأمل،عازم على العمل من أجل غد أفضل لوطن يستحق أفضل كثيرا مما هو فيه،ولا أدرى هل أظل إلى آخر حياتى أؤمن أن
بلادى وإن جارت على عزيزة ........وأهلى وإن ضنّوا على كرام أم أن حرصا على مستقبل أطفال لم يأتوا بعد،أو ظلما من أستاذ يعتقد نفسه أعلم أهل الأرض،أو مزايدة من جاهل يحسب أن الله منحه وحده خريطة الطريق إليه قد يدفعوننى إلى تغيير قناعاتى؟؟؟