يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) صدق الله العظيم - المؤمنون 112 - 114 . تتحدث الآيات الكريمة عن السؤال الذى سيوجه للضالين يوم القيامة ، بعد أن يقروا بفعالهم ، ويعترفوا بضلالهم فى الدنيا: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) – يس 106 ، وسؤال الضالين فى هذا المقام عن مدة مكثهم فى الأرض فى حياتهم الدنيا يحمل العديد من المعانى والدلالات ، فهو قد يحمل معنى السخرية واللوم والتقريع ، والندم والأسى ، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ) – الفرقان 27 ، ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) – السجدة 12.
وقد تحدث القرآن كثيرا عن الحياة الدنيا، وقابل الحياة الدنيا بالآخرة فى معظم الآيات ، ليبين للناس أن الحياة الدنيا ؛ هى دنيا فعلا من اسمها، وضيعة حقيرة، وليس أدل على ذلك أكثر من كونها مؤقتة قصيرة ، محكومة بالزمان والمكان ، إذا ما قورنت بالآخرة حيث لا زمان ولا حدود للمكان ، وهو ما عبر عنه القرآن ( بالأبد ) ، أى لا زمان ، فالمتقون خالدون فى الجنة أبدا: ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) – التغابن 9 ، كما أن الكافرين خالدون فى النار والعذاب أبدا: ( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ) – الأحزاب 64 و 65 .
ورد فى صحيح البخارى: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ، ثم يذبح ، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم .
فالخلود هو السمة الأهم للآخرة ، حيث لا حساب للزمن كما يحسب فى الدنيا ، والشيطان حين وسوس لآدم بالأكل من الشجرة المحرمة ؛ أغراه بالخلود: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ) – طه 120 ، كما أن الفناء هو المصير الأكيد للحياة الدنيا.
وقد خلق الله تبارك وتعالى الحياة الدنيا كلها على أساس الزمان ، وجعل تبارك وتعالى مرور الزمن على أساس الدوران ، فالأرض تدور حول محورها ، وتدور حول الشمس ، والقمر يدور حول الأرض ، دورة الأرض حول نفسها بيوم أى ليل ونهار ، ودورتها حول الشمس بسنة ، ودورة القمر حول الأرض شهراً ، كونٌ أحكم خالقه ترتيبه ، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) – الأنبياء 33 . فدوران كل شئ هو أساس وجوده ، فالأرض تدور حول محورها أمام الشمس ، وتدور فى مدارها حول الشمس ، والقمر يدور فى فلكه حول الأرض ، والكواكب والأقمار والأجرام والنجوم كلها تدور فى أفلاكها ، كما قدر الله لها حتى يطوى الله السماء بيمينه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) – الزمر 67 ، والزمان القائم على الدوران هو ما أشار إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع: ( ... وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض ... ألا هل بلغت اللهم فاشهد ).
إذن .. فيوم القيامة سيطوى الله تبارك وتعالى السموات والأرض بيده ، فيتوقف مرور الزمن فى الكون كله ، لأن الزمن مخلوق ، ويعتمد على مخلوقات أخرى فى وجوده ، فإذا اختفت مبررات وجوده ؛ أصبح عدماً ، وهو مايعنيه الأبد أو الخلد ، أى لا حساب ولا مرور للزمن ، فإذا سئل الضالون يوم القيامة عن عدد السنين التى عاشوها على الأرض ؛ قطعاً ستكون الإجابة: يوماً أو بعض يوم ، لأن الإنسان مهما عاش أو عمّر ؛ فعمره كله لا يقاس بالخلود الذى سيعيشه يوم القيامة ، حين يتوقف حساب مرور الزمن ، وتبدو له حياته الدنيا مجرد يوم أو بعض يوم ، وفى آية أخرى يقول القرآن عن الناس حين تقوم الساعة: ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) – النازعات 46. ورد فى صحيح مسلم: حدثنى زهير بن حرب حدثنا جرير عن هشام عن ابن سيرين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر ) ، وبعض الأئمة القدامى كابن حزم ؛ أضافوا ( الدهر ) إلى قائمة أسماء الله الحسنى ، وذلك اعتمادا على هذا الحديث ، فكيف يوصف الله تبارك وتعالى وهو خالق الدهر بأنه الدهر ؟ كيف نصف الله تبارك وتعالى بصفة زائلة فانية ؟ تعالى الله عما يصفون ، الزمان والوقت والدهر كلها مخلوقات لله ستفنى وتنتهى ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) – إبراهيم 48 ، ( وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) – القصص 88 .