هذا النص القرآني الكريم جاء في منتصف سورة محمد وهي سورة مدنية, وآياتها ثمان وثلاثون بعد البسملة,وقد سميت باسم خاتم الأنبياء والمرسلين- صلي الله عليه وسلم- لورود اسمه الشريف في الآية الثانية من هذه السورة المباركة, ولوصف القرآن الكريم بوصف( بما نزل علي محمد), وبأنه( وهو الحق من ربهم) وذلك تشريفا لسيد الأولين والآخرين من ولد آدم, وتأكيدا علي صدق نبوته, وعلي ربانية الوحي الذي تلقاه. ويدور المحور الرئيسي لهذه السورة المباركة حول التشريعات المتعلقة بقضية الجهاد في سبيل الله وذلك من مثل أحكام القتال والأسري, كما حذرت من أخطار المنافقين في السلم والحرب, وأشارت إلي عدد من ركائز العقيدة الإسلامية هذا وقد سبق لنا استعراض سورة محمد, وما جاء فيها من ركائز كل من التشريع والعقيدة, والإشارات العلمية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التشريعي في فرض توحيد الله- تعالي- كقاعدة أساسية للعقيدة الإسلامية, لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال. من أوجه الإعجاز التشريعي في الأمر بتوحيد الله أثبتت الدراسات العلمية أننا نعيش في كون له بداية تقدر بحوالي(13700) مليون سنة, وكل ما له بداية لا بد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية, وكل ما له بداية ونهاية لا يمكن أن يكون خالقا, بل هو مخلوق لخالق عظيم هو الله, الخالق, البارئ, المصور. كذلك أثبتت الدراسات العلمية أن الأصل في مادة هذا الكون المخلوق هو غاز الهيدروجين الذي اتحدت نوي ذراته في درجات عالية جدا من الضغط والحرارة لتكون أغلب العناصر البانية للكون, وبقيتها تتكون في صفحة السماء باصطياد نوي ذرات الحديد للبنات الأولية للمادة, وقد أدي ذلك إلي الاستنتاج الصحيح بتآصل العناصر جميعا أي إلي وحدة أصولها مما يشير إلي وحدانية الخالق- سبحانه وتعالي-. وذرة الهيدروجين- علي ضآلتها ذ تتكون من بروتون واحد في نواتها يحمل شحنة كهربية موجبة, وإلكترون واحد يدور في فلك حولها ويحمل شحنة سالبة مكافئة, وهذه الزوجية في ذرة الهيدروجين تشهد للخالق بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه الذين خلقهم جميعا في زوجية كاملة: من اللبنات الأولية للمادة إلي الإنسان حتي يبقي ربنا- تبارك وتعالي- متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه. والذرة تشبه في بنائها المجموعة الشمسية: نواة في الوسط تشبه الشمس وإلكترونات تدور في فلكها كما تدور الكواكب في فلك الشمس. وصخور الأرض- مهما تباينت أنواعها- فأصلها واحد هي الصخور النارية, وهي تتكون أساسا من المعادن, وتتكون المعادن من العناصر والمركبات, وعناصر الأرض فاقت المائة بقليل, وليست المعادن وحدها هي التي تتكون من العناصر, فكل شئ مادي يتكون من تلك العناصر: النجوم والكوكب, والأقمار, والمذنبات, والشهب, والنيازك, الأرض وأغلفتها الصخرية, والمائية, والهوائية, والحيوية, والمادة بين كل من الكواكب والنجوم وغير ذلك من مختلف صور المادة التي ترد كلها إلي غاز الهيدروجين ومن المركبات, البسيط, ومنها ما هو غاية في تعقيد البناء, وكلها يرد إلي العناصر التي ترد إلي غاز الهيدروجين. وكل ذلك يشير إلي وحدانية الخالق- سبحانه وتعالي-. وتبلغ الذرة من الدقة أنها تقاس بجزء من عشرة ملايين جزء من المليمتر, وتقدر كتلتها بجزء من مليون مليون مليون مليون جزء من الجرام. وإذا مست نواة الذرة بشعاع من النيوترونات فإنها تنقسم, وإذا انقسمت النواة انفصم كل من البروتونات والنيوترونات عن بعضها البعض,وبانفصامها تخرج منها الطاقة الرابطة لهذه الجسيمات وتعرف باسم القوة النووية الشديدة, وهي قوة هائلة للغاية. وفي الوقت الذي ترد المادة إلي لبنات ثلاث هي: البروتون,والإلكترون, والنيوترون, وهي تتكون من جسيمات أدق تعرف باسم اللبنات الأولية للمادة( أو الكواركات) مما يرد المادة كلها إلي أصل واحد, وإن تعددت أشكالها, فإن مختلف صور الطاقة ترد أيضا إلي أصل واحد هو الجاذبية العظمي وتأتي النظرية النسبية الخاصة لتكافئ بين المادة والطاقة, وتنادي بأنهما سواء, وتصدق التجارب هذه النظرية, وفي مقدمة ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليورانيومية. وإذا تساوت المادة والطاقة, لم يبق من أشياء هذا الكون إلا القوي والمكان والزمان. وتحاول النظرية النسبية العامة أن تربط بين الزمان والمكان فتجعل منهما شيئا متواصلا, فلا يوجد مكان بلا زمان, ولا زمان بلا مكان, ولازمان ومكان بغير مادة وطاقة. كذلك تحاول نظرية الحقل الواحد أن تسوي بين كل من القوتين النوويتين الضعيفة والشديدة, وكل من الطاقة الكهربائية/ المغناطيسية وقوة الجاذبية فيما يعرف باسم' الجاذبية العظمي'.وهكذا يتحلل مركبات هذا الكون أجمع من المادة, والطاقة, والزمان, والمكان إلي شئ واحد يمثل الوحدة العظمي التي تجري في الكون كله شاهدة للإله الخالق- سبحانه وتعالي- بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه التي أمر بها ربنا- تبارك وتعالي-بقوله العزيز:[ فاعلم أنه لا إله إلا الله][ محمد ا19]. والإيمان بالله الخالق البارئ المصور يستلزم توحيده توحيدا كاملا في ربوبيته( بمعني التسليم بأنه- تعالي- رب كل شئ ومليكه,ولا رب سواه), كما يستلزم توحيده- سبحانه وتعالي- توحيدا كاملا في ألوهيته( بمعني الإيمان بأنه وحده المستحق للعبادة الخالصة لجلاله دون سواه,ويستلزم توحيدا كاملا لله في أسمائه وصفاته( بمعني ألا يدعي الله أبدا إلا بما أثبت لذاته العلية من الأسماء الحسني والصفات العليا, وتنزيهه- جل شأنه- عن أسماء وصفات خلقه أجمعين. وهذا الإله الواحد الأحد, الفرد الصمد,( لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفوا أحد). عرف ذاته العلية لأبوينا آدم وحواء-عليهما السلام- لحظة خلقهما, وأشهد ذريتهما جميعا علي ربوبيته وهم في عالم الذر في أصلاب آبائهم, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي-( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين*)( الأعراف:172). من هنا كان الإيمان الكامل بالله-تعالي- ربا واحدا أحدا, وتنزيهه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله هو من البديهيات الفطرية التي يدركها الإنسان السوي الفطرة بغير عناء أو مشقة, ويفقد كل من تلوثت فطرته بنزغات الشياطين من الإنس والجن. ومن هنا أيضا يخبرنا المصطفي- صلي الله عليه وسلم- أنه ا كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم علي شريعة الحق ا( الحاكم في المستدرك). ويروي ابن عباس- رضي الله عنهما- ا أن رجالا صالحين من قوم نوح هلكوا فوسوس الشيطان إلي قومهم أن انصبوا إلي مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا, فلم تعبد, حتي إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ا. (صحيح البخاري). وكانت هذه أول صورة من صور الشرك بالله, وأول وثنية في تاريخ البشرية. ولما تفشت الوثنية في قوم نوح بعثه الله ذ سبحانه وتعالي- إليهم ليردهم إلي التوحيد فلم يستجب لدعوته إلا القليل فعاقبهم الله- تعالي- بالطوفان, ونجا نوحا والذين آمنوا معه, ومن ذرية هؤلاء جاء قوم عاد الذين كانوا علي التوحيد ثم اجتالتهم الشياطين فأشركوا بالله وعبدوا الأصنام والأوثان, فبعث الله-تعالي- إليهم عبده ونبيه هود-علبه السلام- يدعوهم إلي التوحيد فلم يؤمن معه إلا القليل فعاقبهم الله-تعالي- بالرياح التي طمرتهم بالرمال, ونجا الله-تعالي-نبيه هودا والذين آمنوا معه. وجاء من ذرية هؤلاء قوم ثمود الذين عاشوا علي التوحيد ثم اغتالتهم الشياطين فأشركوا بالله, وعبدوا الأصنام والأوثان فعاقبهم الله-تعالي- بالصاعقة التي قضت عليهم, ونجا عبده ونبيه صالحا والذين آمنوا معه. وجاء من نسل هؤلاء قوم ثقيف الذين كانوا علي التوحيد ثم وسوست إليهم الشياطين فأشركوا بالله وعبدوا الطواغيت من الأصنام, والأوثان, والنجوم والكواكب. وظلت البشرية تتأرجح بين الإيمان والتوحيد والاستقامة علي منهج الله تارة, وبين الكفر والشرك والخروج علي منهج الله تارات إلي اليوم, وسوف تظل كذلك إلي قيام الساعة. ولذلك قال تعالي في الحديث القدسي:..... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم, وانتابتهم الشياطين, فاجتالتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم.( الطبراني في المعجم الكبير) والكون كله بمن فيه وما فيه يشهد للإله الخالق بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه. فعلماء الفلك يقرون بأن هذا الكون الشاسع الاتساع, الدقيق البناء, المحكم الحركة لا بد له من مرجعية في خارجه. وأن هذه المرجعية لا بد أن تكون فوق كل من المكان والزمان, وفوق كل من المادة والطاقة, وكأنهم يترجمون وصف الحق-تبارك وتعالي- لذاته العلية بقوله العزيز:(...... ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)( الشوري:11). فالكون يشهد لخالقه بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه من الذرة, إلي المجموعة الشمسية, إلي المجرة, إلي المجموعات المحلية, إلي الحشود المجرية, إلي التجمعات المحلية العظمي, إلي الحشود المجرية العظمي وإلي الكون كله فهو مبني علي نظام واحد يشهد لخالقه بالوحدانية. فالبناء الدقيق للسماء وهي دائمة الاتساع- تحكمه قوانين شديدة الانضباط حيث يدور كل جرم سماوي حول محوره, ويجري في مدارات محددة له دون توقف أو تعطل, ودون اصطدام أو ارتطام, أو خروج أو حيود إلي أن يشاء الله تدمير هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه فيكون ذلك. ووحدة البناء في الكون تؤكد أن توحيد الخالق أفضل من الشرك به, وأن تنزيهه- سبحانه وتعالي- فوق جميع خلقه أفضل من الانحطاط بمدلول الألوهية إلي الحجر والشجر أو البشر أو أجرام السماء, ولذلك قال-تعالي-: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون( [ الأنبياء:22] . ولذلك جاء هذا السؤال الاستنكاري التقريعي للمشركين:( أإله مع الله ؟) خمس مرات في سورة النمل, وجاء الجواب خمس مرات بقول الحق- تبارك وتعالي-:( بل هم قوم يعدلون),( بل أكثرهم لا يعلمون) قليلا ما تذكرون),( تعالي عما يشركون), و( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). وهنا تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في خطاب ربنا ذ تبارك وتعالي إلي خاتم أنبيائه ورسله ذصلي الله عليه وسلم قائلا:[ فاعلم أنه لا إله إلا الله.....][ محمد:19] . فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام سيدنا محمد النبي العربي الأمين صلي الله عليه وسلم وبارك عليه- وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المزيد من مقالات د. زغلول النجار