تأملت كثيرا في مشهد الدكتور البرادعي وحوله بعض الرموز من النخبة السياسية والثقافية التي زارته للنقاش معه حول المستقبل، وأسعدني خبر تأسيس جمعية وطنية، فأي مبادرة لتحريك الماء الراكد مهمة في تلك اللحظة التي وصلنا فيها لجمود سياسي غير مسبوق وهيمنة بوليسية علي الشارع السياسي والشارع الأسفلتي (رغم غياب الأمن اليومي) أضحت خانقة لكل أشكال التنفس الصحي، ناهيك عن التغيير السياسي. كنت قد كتبت الأسبوع الماضي عن المهدي المنتظر واليوتوبيا، حلمنا بعهد جديد وفارس علي فارس (يأتي في الغالب من الخارج) قادر علي التغيير، وقلت إن الفارس يحتاج لجنود، والمهدي يحتاج لجيش، وأن قيادة بدون جماهير مستعدة لدفع ثمن حتي تستطيع أن تدفع عجلة التاريخ للأمام. العنصر الذي لم أتحدث عنه المرة الماضية هو النخبة، تلك المساحة الفاصلة والحامية بين الدولة والجماهير، القادرة علي ترجمة القرار إلي سياسة يمكن أن تأخذ مجراها، والتي تملك النفوذ لدعم القيادة البديلة أو الرئاسة الحالية، فالنخبة قد تكون نخبة حكم قابضة رابضة فوق أنفاسنا، وقد تكون نخبة تغيير لديها القدرة علي تعبئة رأس المال السياسي والاجتماعي باتجاه القيادة البديلة . الطريف في المشهد الذي رأيناه كشعب هو أن النخبة التي ذهبت لتحية البرادعي والتحاور معه وأعلنت عن تأسيس جمعية وطنية هي نخبة معظمها في الساحة السياسية بالفعل في المعارضة، والمعارضة بالمناسبة جزء من المشهد السياسي الحالي، صحيح أن هناك نضالاً من أجل التغيير، وهناك مواقف بطولية للعديد من الوجوه التي ذهبت للقاء وشاركت في الإعلان عن جمعية وطنية من أجل دستور يليق بنا وبمستقبل ديمقراطي، لكن السؤال الذي قفز إلي ذهني هو لماذا لم تجتمع هذه النخبة السياسية المعارضة وتخرج لنا قيادة واحدة من الداخل خلال السنوات الماضية؟ ببساطة لأنها منقسمة علي ذاتها، صراعاتها لا تخفي علي أحد، من أكبر حزب (محظوراً كان أم غير محظور) إلي أحدث حزب تمكن في وقت قياسي من ولادة انقسام في القيادة دفع لانسحاب رمز من رموزه التأسيسية، وخروج آخر ليؤسس حزباً ثانياً..فضلا عن النزاع المستعر داخل العديد من حركات التغيير. أخشي علي حلم المصريين الذين ولد بداخلهم أمل من أن يتبدد، وأن تأخذ هذه النخبة المعارضة البرادعي بحكم ثقلها إلي أسفل بدلاً من أن يصعد هو بها إلي أفق جديد. ميزة البرادعي أنه ليس طرفا في نزاعات السنوات الماضية، وهذه قد نكون عنصر ضعف يعطي شرعية للنقد الذي يقول أنه قادم من الخارج (الذي ألمحت له في مقال المهدي المنتظر) والذي قال -وإن كان بنيات أخري- رموز الحزب الوطني التي مدت شفتيها ممتعضة ناظرة بعين لمكاسبها التي تريد أن تحافظ عليها وبعين أخري للرئيس كي يزداد رضاه عنها مناصب وكراسي. لكن هذا أيضاً الأمر بالطبع في وجهه الآخر عنصر قوة، فهو يبدأ دون ثارات قديمة، ولا مرارات سابقة، ولا تاريخ من النزاعات، هو موجود بين أفراد النخبة المعارضة. لذا فالتحدي هو أن تمنحه تلك النخبة طاقة أكبر دون أن تفسد عليه بكتلتها الصلبة قدرته علي التحليق نحو مستقبل مختلف يتجاوز عصر الأيديولوجيات المتعاركة والنخب المتنازعة التي لم تستطع أن تخرج لنا من بينها رمزاً يجمع عليه الكل وتصطف خلفه لأسباب تتعلق بالمنافسة السياسية ورغبة الجميع-وأكرر الجميع- في القيادة والصدارة. أمر آخر هو فكرة الجمعية الوطنية التي تحمل دلالات جمهورية، وهذا أمر لا غضاضة فيه ألبتة، لكنه يعود بنا إلي مربع الجمهورية تحديداً، نخبة وقيادة..لكن أين دور الجماهير وأين القاعدة الصلبة من تفعيل الناس وليس فقط تقدير حماسها واحترام أملها وطموحها في التغيير؟ الجمعية الوطنية تشير لجمهورية مرتقبة حقيقية، يبقي العنصر الأهم وهو الجمهور. أيضاً نظرت فوجدت امرأتين في الوفد السياسي وثلاث عشرة امرأة في وفد مواز، ولم أفهم لماذا لم يكن وفداً واحداً للقوي كلها ولمن يريد من النخبة الثقافية، رجالا ونساء كما هو تاريخنا وجذور مجتمعنا السياسي في عصر الرسالة (ونحن في ظل ذكري مولد الرسول) ، معاً. لم أفهم هذا الخلاف حول تعيين المرأة في بعض وظائف القضاء في حين يتشكل وفد نسائي مستقل مواز، كما لم أفهم تجاوز القيادة القضائية لرأي اللجنة التي قررت وصوتت بغض النظر عن صدمة القرار، فالفكرة ليست في الطموحات، بل في احترام الآليات والمحاولة ثانية، لكن احترام استقرار القواعد، وليس الانقلاب عليها لأن القرار لم يلاق المنشود. لو نجحت الجمعية الوطنية في تأسيس قواعد دستورية وسياسية .. واحترامها.. فسنكون قد تحركنا خطوة نحو الجمهورية.... ا ل ج م ه و ر ي ة.