إنها واحدة من أيقونات الأدب المسرحى العالمى.. أتحدث عن «بيت برناردا ألبا» رائعة «لوركا» كتبها شاعر إسبانيا الكبير فى مواجهة الطغيان الذى كان متجسدا وقتها نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى فى «فرانكو» سفاح إسبانيا. كان «لوركا» هو الشاعر الذى واجه بالقلم حكم الحديد والنار قد كتب هذه المسرحية فى نهايات أيامه وكأنه ينهى حياته بكلمة حق قبل أن يودِّع الدنيا.. خرج هذا الفيلم التسجيلى الذى حمل اسم «بيت برناردا ألبا» خاوى الوفاض من جوائز مهرجان «الجزيرة» لكنه أبدا لن يسمح له بالخروج من وجدانى!
المسرحية تروى حياة «برناردا» صاحبة البيت الأرملة التى مات زوجها فقررت أن تفرض الحزن لمدة 8 سنوات على الجميع، على أن تلتزم البنات بملابس الحداد.. لم تفكر لحظة واحدة أن البنات يقفن على عتبة العنوسة وأنها تبدد أعمارهن وتقضى على أى احتمال للزواج، ونسجت المسرحية فى سياقها السياسى ما بين الشاعرية والشجن.
الفيلم التسجيلى للمخرجة الإسبانية «ليديا بيرالتا جارثيا» لم يكن تعنيه المسرحية بتفاصيلها، ولكن بدفاعها عن قيمة المقاومة، حيث يقدم لنا واقعة حقيقية عن مجموعة من الغجر تعيش فى ما يعرف ببيوت الصفيح، حياة أقرب إلى البدائية وبلا تعليم ولا أى نوع من الرعاية وتقدم كنوع من التجربة مسرحية «بيت برناردا ألبا».. حرصت مخرجة الفيلم وهى بالأساس تعمل مراسلة فى التليفزيون الإسبانى على أن تجرى حوارات مع بطلات المسرحية تسألهن عن «لوركا»، تجيب إحداهن أنها لم تلتق به من قبل، وتقول أخرى إنها لأول مرة تسمع اسمه.. تنتقل بالعرض المسرحى من مدريد بعد أن اعتقد صناعه أنه لن يمكث أكثر من أيام قلائل ليجوب أكثر من عاصمة أوروبية محققا أعلى درجات النجاح، رغم أنها لا تعرف شيئا عن التمثيل ولا الرقص ولا القراءة ولا الكتابة، ولكن ما حدث هو فى الحقيقة توظيف لحالة التلقائية فى العمل الفنى التى تحيل ما يبدو غير فنى إلى حقيقة الفن فى أعلى درجاته، وهو الوصول إلى العفوية المطلقة.
كاميرا المخرجة تنتقل مع الفرقة، وفى نفس الوقت لا تغفل عما يجرى فى تلك المنازل العشوائية، حيث إن المسرحية أبطالها من النساء، وهكذا أصبح على الرجال أن يتولوا الشؤون المنزلية فى أثناء غياب الأمهات، بينما نرى حالة الازدراء التى تواجهها فى العاصمة الإسبانية، فلا يسمح لها حتى بعض الكافيتريات بالجلوس داخلها!
المخرجة وهى أيضا كاتبة السيناريو تنقل تجربة فرقة استثنائية بكل ما تحمله من إثارة وجاذبية، وكان يكفى أن تتابع المسيرة والجمهور يصفق، ولكنها لم تغفل الجانب الاجتماعى لهؤلاء اللائى يعِشن مهمشات فى بلادهن بسبب انتمائهن للغجر، يقمن داخل بيوت من الصفيح التى تراها على الأطراف فى العديد من الدول الأوروبية.
حرصت المخرجة على أن تنقل لنا كيف أن السيدات يقبلن على الحياة رغم قسوة الظروف والمعاناة إلا أن روح المرح صارت جزءا أيضا من تلك الحياة.. النقطة الفارقة فى تناول هذا الفيلم هى أن البطلات لم يفقدن التلقائية لا على خشبة المسرح ولا أمام الكاميرا.
إنه نموذج للفيلم التسجيلى الذى يضرب أكثر من عصفور بنفس الحجر، ويستحوذ عليها جميعا، فأنت تتابع الفرقة وهى تنتقل من نجاح إلى نجاح وتتابع فى نفس الوقت القرية، وهى تعيش المعاناة ولا تنسى إحدى بطلات العرض أن تطرح مباشرة الفارق فى تفصيلة دقيقة بين البيت العشوائى الذى تعيش فيه والمدينة، فهى فى بيتها عندما يهطل المطر تنتقل إلى خارج المنزل لتغسل الأوانى بالماء الملبد بالتراب، بينما عندما تمطر فى العاصمة تغسل الصحون داخل المنزل بالمياه الساخنة.
«لوركا» شاعر إسبانيا الكبير عندما كتب هذه المسرحية قبل أكثر من سبعين عاما لم يعتقد أنه من الممكن أن تقدمها فرقة مسرحية من الهواة، وبعضهم لا يقرأ ولا يكتب وأغلبهم لا يعرفون من هو «لوركا»، ورغم ذلك فلقد تفهموا بالضبط ما الذى ترمى إليه مسرحية «لوركا».
أهدت المخرجة هذا الفيلم إلى إحدى البطلات التى ماتت فى أثناء العرض لتعيش قضيتها على شريط سينمائى.
فى أثناء توزيع الجوائز لم يذكر اسم فيلم «بيت برناردا ألبا» إلا لمامًا باعتباره مرشحا لجائزة لم ينلها، ولكن جائزته الحقيقية التى حصل عليها هى أنه سكن مشاعر كل الذين شاهدوه.