ربما المحامون الكويتيون الخمسة الذين تطوعوا للدفاع عن حسني مبارك ظلموا الكثيرمن الكويتيين ، حيث ظن البعض ان الشعب الكويتي بأكمله ضد الثورة المصرية لأنها أطاحت بحسني مبارك ، الذي له عندهم معزة خاصة جدا بعد وقفته الفتية على حد قولهم وقت الغزو العراقي للكويت. غير أن الحقيقة تختلف كثيرا عما تبدو الصورة عليه ، فليس كل من اعرفهم من الكويتيين مع مبارك ، والذين يحبونه منهم مجرد تعبير عن موقف يجدونه موقفا رجوليا .. أو كما نقول نحن المصريون " صاحبك تعرفه في وقت الشدة " .. لكن العقلاء هنا وما أكثرهم ، يحبون مصر وشعب مصر أكثر بكثير من محبتهم لمبارك .. ويدركون تماما إن كان هناك " جميل " لمصر في رقبة الكويت ، فالفضل يرجع بعد الله للشعب المصري ، وليس لمبارك ، وبالتالي من فرط محبتهم لهذا الشعب الأصيل " الخدوم " الودود ، ساءهم كثيرا ما حدث له بعد حكم 30 سنة ، وهالهم - بجد - حجم الفساد الرهيب الذي غطى أرجاء المحروسة ، وأمرض أبناءها وأفقرهم .. وبحسبة بسيطة - أتحدث عن البعض من الكويتيين وهم ليسوا بقلة - أدركوا أن السبب الرئيسي فيما آل إليه حال مصر والمصريين سببه هذا الافندي المسمى - خطأ - مبارك .. فلا بركة فيه ولا في عائلته ، ولا في عهده ، ولم نر منه إلا الذل والهوان وقلة القيمة.
واحد من هؤلاء البعض المثقف الواعي لتوه عائد من مصر ومن ميدان التحرير.. هو أستاذ كبير وصحفي له باع طويل في بلاط صاحبة الجلالة وفيه قدر من الصلاح وطيب الخلق ما يعجز القلم عن وصفه .. بل دعني أقول أنه يهوّن على أنا شخصيا الكثير من الأمور التي أراها معقدة ، ودائما حين أبوح له ببعض اوجاعي - وما أكثرها - يقول لي بابتسامة مشرقة : وبشر الصابرين .. ثم يكمل بنفس الابتسامة .. سبحانه " تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شىء قدير". ثم وهو يودعني مبتسما : دوام الحال من المحال يا ابو حميد ، مبارك كان فين ودلوقتي فين .. بس مين يشوف ومين يتعظ؟!
هذا الصحفي اسمه يوسف عبد الرحمن ، وأناديه دائما كعادة الكويتيين " يا ابو مهند " .. عمره قارب الستين ، لكن علمه يفوق السن بمراحل ، فخزينة معلوماته متخمة ، كأنه نزل من بطن أمه يقرأ ويطوق للمعرفة.. أبو مهند كان في مصر منذ أسبوعين ، وهذه أول زيارة له للمحروسة بعد الثورة ، وفي استراحته الأسبوعية التي يكتبها في جريدة الأنباء كتب ، لا اقول مقالا ولكن سيمفونية رائعة في حب مصر التي يقول عنها شاء من شاء وأبى تبقى هى قلب الأمة النابض ، وإذا مرض أو وهن هذا الجسد اعتل جسد الأمة بأسرها .. فهي المحروسة دوما ببركة الله والمحاطة دوما بعنايته ورعايته.
سُرقت ونُهبت وجفّت منابعها ، ولا يزال أهلها يبتسمون ويضحكون وينكّتون .. ليست ابتسامة وضحك ونكات من فقد الأمل ، أو من رفع راية الاستسلام ، لكنها ابتسامة وضحك ونكات القادر وقت الجد على التغيير والإطاحة بمن لا يعجبه حكمه .. قوة عجيبة لمسها أبو مهند في رحلته القصيرة إلى المحروسة .. بهره ذكاء سائق تاكسي وهو يقول له: إحنا عايزين رئيس حازم وشاطر ومعه خاتم سليمان .. لا يقصد السائق بالقطع الأشخاص الذين أشار إليهم ، لكنه قصد هذا التنوع الواجب في رئيس الجمهورية .. الحزم والشطارة وخاتم سليمان الذي ربما إذا ما توفّرت الشطارة وقبلها الحزم ، استطاع خدمة من اجتهد ، ولم يرم بكل حمله على الخاتم في انتظار بركاته.
أبكتني كلماته وهو يكتب عن ميدان التحرير الذي زاره والتقط له زميل صورة تذكارية في قلبه النابض بالعزة والثورة والكرامة .. يتحدث بعشق عن الميدان كأنه احد أبنائه ، أو كأنه لن يبرحه طيلة ال 18 يوما .. يقول ، وأنقل من استراحته المكتوبة : كنا في الكويت نتابع الجزيرة والعربية والفضائيات ونعجب لهذه الكرامة الشبابية التي عادت بعد عقود من الزمن لتجبر وترغم مبارك على التنحي والرحيل بعد أن قدم شبابها مواكب من الرجال ضحوا بأرواحهم ودمائهم ، وحملوا أكفانهم فوق أياديهم ، كي يحيا المصريون حياة عزة وكرامة .
مبهور هذا الرجل - والكلمة أعنيها - بكتابات الدكتور علاء الأسواني الذي يعتبره من أبرز الأدباء العرب في السنوات الأخيرة ، ويصف قلمه بريشة فنان ترسم وتوزع ألوانها على اللوحة وكل لون فيها يوحي بالكثير .. استمتع حسب قوله بكتاب الأسواني " هل أخطأت الثورة المصرية ؟ ، مشيرا إلى أن مصر تمر بمرحلة حرجة جدا .. إما النصر وإما الانكسار.
مبهور أيضا " أبو مهند " بشاعر الثورة عبد الرحمن يوسف ، وينقل في استراحته قصيدته المتفردة التي كتبها في عز جبروت وتسلط مبارك " الهاتك بأمر الله " .. يا من لعرضي هتك .. فقدت شرعيتك .. من ربع قرن كئيب .. لعنتها طلعتك .. أموالنا لك حل .. فاملأ بها جعبتك .. خلف الحراسة دوما .. مستعرضا قوتك .. تُبدي مظاهر عز .. تُخفي بها ذلتك .. إلى أخر القصيدة العبقرية .. سواد قلبك باد .. فاصبغ به شيبتك.
عاد أبو مهند من المحروسة كأنه عائد من الجنة ، رغم الهم والحزن الذي طالعه في وجوه الكثيرين ، غير أنه يراهن دائما على جمال المصريين وعزيمتهم الفتيّة .. وقال لي وأنا أحييه على استراحته التي أبكتني محبة وعشقا في تراب بلدي ، والمؤثر أكثر ، عشقه هو للبلد الذي لا يحمل جنسيته ، لكنه يحمل في قلبه وصدره وكل حناياه ، محبة خالصة للناس الطيبين في أرجاء المحروسة التي يفضل أن يطلق عليها دائما هذا الاسم .. ويقول لي : إلا المحروسة يا ابو حميد .. دي مبروكة من اللي خلقها وحتفضل على طول محروسة إلى أبد الآبدين.