في مارس 1954 اجتمع الرئيس اللواء محمد نجيب بك مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأصدروا بيانا بعدة قرارات كانت الأهم في تاريخ مصر الحديث، من بينها عودة الضباط إلى ثُكناتهم وعدم اشتغالهم بالسياسة وألا يشكّلوا حزباً، وكان القرار الأهم هو دعوة الشعب لانتخاب الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، وهذه الجمعية بعد انتخابها انتخابا حراً نزيهاً؛ لها كل سلطات البرلمان، وهي التي ينتخب أعضاؤها رئيس الجمهورية.. لم يتحقق أيٌ من آمال الشعب المصري في ديمقراطية حقيقية، أو أحلام الرئيس نجيب بجمهورية برلمانية، وانتهى الأمر آنذاك باستيلاء البكباشي جمال عبد الناصر على السلطة، واعتقال الرئيس محمد نجيب ووضعه رهن الإقامة الجبرية، وخرجت المظاهرات العمالية المدفوعة لتهتف بسقوط الحرية وسقوط الديمقراطية، ودخلت البلاد في نفق مظلم من الديكتاتورية والحكم الفردي المستبد لسبعة وخمسين عاما..
المهم في تلك القرارات التي ذكرتها آنفا؛ أن الجمعية التأسيسية التي تكتب الدستور تُنتخب انتخابا حرا مباشرا نزيها، ولها مع كتابة الدستور؛ كل صلاحيات البرلمان، وصولا إلى انتخاب رئيس الجمهورية في حالة النظام الجمهوري البرلماني، وهو النظام الذي كان يفضله الرئيس محمد نجيب، والذي لم يعجب بالطبع باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة الطامحين إلى حكم مصر، وكان ما كان.
إن ما تمر به مصر الآن هو نسخة طبق الأصل من فترة مارس 1954؛ مع الفوراق الزمنية والسياسية التي فرضت نفسها على الواقع الأسود.. كيف؟
لسبع وخمسين سنة إشتغل ضباط الجيش بالسياسة، وحكموا البلاد بقبضة حديدية، إعتمدت على أجهزة الأمن بصفة أساسية، فقمعت كل حركة من شأنها أن تبعث الحياة السياسية المدنية في عروق المصريين، ولأن الضباط امتلكوا آنذاك قوة الجيش القاهرة؛ والبلاد كانت في حالة حرب؛ فقد أذعن الناس لحكمهم، وابتعدوا عن السياسة والتفكير فيها، وتوكلوا على الضباط الحاكمين، ولم يكتفوا بالمشي جنب الحيط؛ إنما مشوا داخله ! إنعزل الشعب بكل طوائفه وشرائحه عن الحياة السياسية وشئون إدارة البلاد، وتركها للضباط يتصرفون فيها كيفما شاءوا، وقدرما أتاحت لهم خبراتهم السياسية المتواضعة، في عالم يموج بالساسة الخبثاء المتمرسين الدواهي.
وعندما اشتعلت الثورة المصرية في يناير 2011؛ وتتابعت الأحداث عبر عام كامل، برزت إلى الساحة السياسية جماعات وأحزاب وتكتلات، أبرزها بالطبع الإخوان المسلمون والسلفيون، والناصريون والعلمانيون واليساريون والليبراليون، واستفتي الشعب على التعديلات الدستورية فأقرها، وأصدر المجلس العسكري الإعلان الدستوري الذي أجريت على أساسه انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وحصل الإسلاميون على أغلبية المقاعد، وبدأت إجراءات انتخاب اللجنة التأسيسية؛ وبدأ الجدل لتسفيه أي اختيار، وهو جدل لا يقوم على الفهم الصحيح لمجريات الأمور، فإن كان الإعلان الدستوري – كما اقتُرح عام 54 - ينص على انتخاب الجمعية التأسيسية أولا؛ ولها صلاحيات البرلمان؛ فإن نتيجة الانتخابات لم تكن لتتغير، كان الإخوان سيفوزون بالأغلبية أيضا، فعلام هذا الجدل الدائر ؟ هل كانت هذه الزوبعة لتكون إن كانت الانتخابات البرلمانية قد أتت بأغلبية ناصرية أو يسارية ؟ طبعا لأ.. ولكن لأن الأغلبية في المجلس التشريعي جاءت إسلامية باختيار الشعب؛ وجب تأديبه وتمليص أذنيه لكي لا يعود لمثلها، بوضع كل العقد في كل المناشير، وتسفيه فكرة الأغلبية التي تقوم عليها كل أفكار الديمقراطية.
يقال في تعريف السفسطة أنها (مركب من الوهميات الغرض منه إفحام الخصم أو إسكاته، والسفسطائيون ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها مما أقره المنطق أو قبلته أحوال المجتمع السليم، وذلك بالتلاعب بالألفاظ لطمس الحقائق والإجابة على السؤال بسؤال)، وما يحدث الآن بشأن كتابة الدستور ومعايير اختيار لجنة كتابته؛ هو سفسطة الفاشلين، الذين حكموا بلادنا لستين عاما، ويريدون الآن أن يستعيدوا ما راح منهم في ثورة يناير، يريدون هذا الشعب راكعا مستسلما لأمانيهم، يريدونه خاضعا لمؤامراتهم، ناسيا لمعاناته عبر ستين عاما من حكمهم، وأنّى لهم؛ فالشعب قد أفاق وعرف أن قوته تكمن في إيمانه بالله، لا في علمنته أو يساريته أو ناصريته، أدرك أن هُويته قد سُحقت عبر ستين عاما من الحكم الفردي العسكري الديكتاتوري، الذي آزر واستخدم هؤلاء السفسطائيين لتكون له الغلبة على الشعب المغيّب، فلما صارت للشعب حرية الاختيار؛ منح من يريد ثقته كخطوة أولى ليسترد هويته بعيدا عن السفسطة والجدل.. واسلمي يا مصر.