حين انتهيت من قراءة مذكرات اللواء محمد نجيب؛ أول رئيس لجمهورية مصر منذ 1952 حتى نوفمبر 1954؛ كان من الفصول التي استوقفتني الفصل الذي كتب فيه نجيب عن الأزمة التي حددت طريق مصر من يومها إلي الآن، تلك كانت أزمة مارس 1954 التي لم تكن مجرد صراع على السلطة بين الرئيس نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة؛ بل كانت أزمة أكثر عمقا؛ كانت صراعا بين توجهين مختلفين متضاربين؛ الرئيس اللواء محمد نجيب يطالب بالديمقراطية والحياة النيابية السليمة تطبيقا للمبدأ السادس للثورة؛ وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة، بينما التوجه المضاد؛ وقائده البكباشي جمال عبد الناصر مدير مكتب الرئيس نجيب، يصر علي تكريس الحكم الفردي وإلغاء الأحزاب وفرض الرقابة علي الصحف. كانت بداية أزمة مارس من جانب محمد نجيب الذي بدأ مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة البرلمانية، وانتهت المشاورات إلي إصدار القرارات التالية: - السماح بقيام الأحزاب. - مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا. - لا حرمان من ممارسة الحقوق السياسية حتي لا يكون هناك تأثير علي الانتخابات. - تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا، دون تعيين أي فرد فيها. - تكون لهذه الجمعية التأسيسية سلطات البرلمان كاملة. - حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت. - تسلم البلاد لممثلي الأمة. - تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها. يقول محمد نجيب في كتابه (كنت رئيسا لمصر): ( كانت هذه القرارات في ظاهرها ديمقراطية وفي باطنها فتنة وتوتر، فقد أثارت الناس الذين لم يرق لهم أن تعود الأحزاب القديمة بكل ما توحي به من فساد وتاريخ اسود، وبكل ما توحي به لهم بنهاية الثورة التي عقدوا عليها كل آمالهم في التطهر والخلاص، وأثارت هذه القرارات ضباط الجيش الذين أحسوا أن نصيبهم من النفوذ والسلطة والمميزات الخاصة قد انتهي ). بعد صدور هذه القرارات بعدة أيام؛ خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ؛ بقيادة صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل؛ ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة، وكان المتظاهرون يهتفون: ( تسقط الديمقراطية..تسقط الحرية )، و( لا أحزاب ولا برلمان )، وانتصر أعضاء مجلس قيادة الثورة على الرئيس محمد نجيب، وصدرت قرارات جديدة تلغي قرارات 25 مارس، وانهزم محمد نجيب، وفي نوفمبر من نفس العام؛ قُبض على قائد ثورة 23 يوليو الحقيقي الرئيس محمد نجيب ليوضع تحت الإقامة الجبرية، في منزل زينب هانم الوكيل بالمرج (كانت المرج منطقة نائية آنذاك )، وخرج منها – يرحمه الله – إلى مثواه الأخير عام 1984. والحقيقة أنني أردت أن أشركك عزيزي القارئ فيما قرأت من تاريخ تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر الحديث لعدة اعتبارات: أولا: القرارات التي اتخذها الرئيس نجيب في تلك الأزمة كانت تعني عودة الجيش إلى ثُكناته، أي عودة الضباط إلى وضعهم الطبيعي في الدولة الجمهورية التي نشأت بعد الثورة، وتعني أيضا أن الرئيس نجيب كان يطمح لأن تكون مصر جمهورية برلمانية الرئيس فيها لا يحكم؛ وينتخبه البرلمان المنتخب. ثانيا: إن فشل محاولة نجيب السيطرة على طموح ضباط الجيش أعضاء مجلس قيادة الثورة لحكم مصر في ذلك الحين؛ كان البداية الحقيقية لكل ما عانت منه مصر وشعبها طيلة سبعٍ وخمسين سنة بعدها. ثالثا: قرارات مجلس الثورة بقيادة نجيب عام 1954؛ هي ذاتها أهداف ثورة 25 يناير؛ الحرية والديمقراطية والدولة التي تحكمها سلطة مدنية ينتخبها الشعب بنزاهة وشفافية، وعودة الجيش إلى ثُكناته. رابعا: يتساءل بعض الخبثاء عما دعا الناصريين إلى نزول ميدان التحرير أمس في احتفالية الثورة يقودهم نجل جمال عبد الناصر ! ألا يكفيهم ما فعله بنا البكباشي من ترسيخ لدعائم دولة المباحث العامة، ومن بعدها أمن الدولة ؟ ألم يُمنَ شعبنا في عهده بالهزيمة تلو الهزيمة ؟ أليس عبد الناصر هو من أجهض أحلام شعبنا عام 1954 في دولة مدنية لا يحكمها العساكر ؟ فماذا تريد منا الآن فلوله ؟ خامسا: جاءت نتيجة الانتخابات لتقر في الصناديق والأذهان موقف المصريين من التجربة الناصرية التي أسست لأربعين عاما من حكم العساكر بعدها، فالحزب العربي الديمقراطي الناصري فشل في الحصول على نسبة تصويت يُمثَّل بها في البرلمان، أي إنه لم يحصل على نسبة 0،05 ٪ من عدد الأصوات في مراحل الانتخابات الثلاثة ! أليس هذا الفشل أكبر دليل على أن الشعب المصري ذكيٌّ ولن يضحك عليه أحد مرة أخرى ؟ ألا يدل على أن الشعب المصري قد أفاق من غيبوبة الإذعان للكاريزما، وقال كفاية كده علينا كاريزما والنبي لحسن خلاص ؟ ألا يبين هذا الفشل أن من لسعته الشوربة في 1954؛ حتما ولازم ولابُد وضروري وواجب عليه ينفخ في الزبادي في 2011 ؟ وعَوْدٌ إلى تساؤلي في هذا المقال؛ هُمّ الناصريون نزلوا التحرير ليه إمبارح ؟ فيعود الخبثاء ليردوا: يا عم .. الحالة ضاقت في ليبيا بعد الثورة، وسدت أبواب المقاولات والبقلاوة؛ فعادوا إلى مصر عشان ياكلوا عيش ! إسلمي يا مصر.. لا يحق لأحدكم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فيلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ..... صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم