معتمر أمين فى الأسبوع الثاني من شهر مارس 2012 كنا مدعوان الى مؤتمر انا وزميلي مصطفى شومان لنتحدث عن الثورة المصرية وكنا ضيوف على بلدية اسلنر وهى ثالث اكبر بلدية فى مدينة استانبول من ضمن 39 بلدية أخرى. اول ملاحظة لفتت انتباهنا قالها مصطفى : "يبدو ان البلدية بها موارد كبيرة لدرجة انها تهتم بتثقيف اهل الحي عبر استضافة نشطاء من بلاد اخرى ليتكلموا عن امور لا تخص الحي بطريقة مباشرة". كانت ملاحظة فى محلها خاصة وان اموال البلدية تصرف فى العادة على خدمات للحى! ظل السؤال معلق بالآذهان حتى قابلنا السيد محمد توفيق رئيس البلدية الذى بدي لنا وكأنه شخص اكبر من منصبه على الرغم من صغر سنه وكان مليئأً بالحيوية والنشاط. اما نائبه الذى يشبهه ايضا السيد رمضان، فهو يتكلم العربية بطلاقة بعد ان درس فى الأزهر الشريف لعدة سنوات اتم فيها رسالة الماجيستر فى العلوم الأجتماعية، ويكن محبة خاصة لمصر واهلها. كانت مقابلتنا معهم قبل واثناء وبعد الندوة حميمة للغاية وشعرنا منها ان السيد محمد توفيق متوقع له مستقبل سياسي واعد، فلقد كان ايام الجامعة زعيم النشطاء السياسيين وهو قيادة نشيطة فى حزب العدالة والتنمية الحاكم. جمعنا الحوار عن الثورة المصرية وهالنى اول سؤال للسيد محمد توفيق الذى سأل عبر نائبه السيد رمضان "هل حقاً قامت ثورة فى مصر؟ وهل فعلاً البرادعى عميل؟".. كنت اود لو اسمع منه لماذا يظن هذا الظن ولكن الحماسة دفعتنى للرد وكنت على وشك ان اقول له "هل تشاهد التلفزيون المصرى، ام من اين تأتى بمعلوماتك!"..لكن الحقيقة آثرت ان يكون ردى بسيط وواضح وبدون اى فكاهة كعادتنا نحن المصريين لكى لا يختلط الأمر على المترجم بيننا فلا يصل المعنى الصحيح! قلت: ان الثورة فى مصر حقيقة وواقع ولا شك فى ذلك وان الثورة المصرية شهدت اكبر مشاركة من شعباً فى ثورة عبر القرنيين المنصرمين وان نسبة الناس التى نزلت الى الشارع تصل الى 20% من مجموع السكان فى حين يقول لنا علماء الأجتماع ان الكتلة اللازمة للنزول الى الشارع وأحداث التغير فى المجتمع تكون فى حدود 10%. لذلك لا شك عندى فى ان الثورة هى عملاً مصرياً خالصاً ولا رجاء فيه لأحد من خارج حدود الوطن! الشيء الوحيد الذى يحرك هذه الجماهيرة الغفيرة هو ما استقر فى العقل الجمعي للمصريين بأن ما هو حاصل لا يمكن ان يستمر ولذلك نزل الناس الى الشارع بعد ان سدت كل الطرق الآخرى من اجل تصحيح الأوضاع والمسار ايضا! ثم ان الدكتور البرادعى مهما اختلفنا عليه، فلا خلاف على انه ايقونة الثورة المصرية وهو للثوار بمثابة الأب الروحى للثورة الذى لجأت اليه الجماهير بقرون استشعارها واستدعته من الخارج من اجل ان يعطيها مساحة اوسع فى الحركة لنصل الى آفاق رحبة لم نكن لنحلم بها او نتحدث عنها الا ويظن الناس اننا نعيش فى الخيال... ثم ان الخيال الذى عشنا فيه لم يتغير وانما تغير الواقع بمجرد ان لمس خيالنا! لم يكن هناك فصيلاً وطنياً ولا شخصية اسلامية وسطية من اى جماعة كانت (بإستثناء السلفيين) الا وكان لهم ممثل عنهم داخل الجمعية الوطنية للتغير التى كانت تعمل لتفتح الباب لمستقبل جديد تحت رعاية البرادعى ورفاقه. لذلك رفضت منطق السيد محمد توفيق وللأسف انتقلنا الى نقطة أخرى قبل ان اتأكد انه غير رأيه فيما طرحه. كانت سوريا الحاضر الغائب فى الندوة وفى كل نقاشاتنا التى أجريناها مع مختلف الناس! كان السؤال التقليدي لنا، كيف نرى الثورة السورية وما هو الحل من وجهة نظرنا؟ وكانت الأجابة دائماً ان فى سوريا ثورة حقيقية وانها منتصرة بإذن الله وان التدخل الأجنبي لن يفيد بل سيضر اشد الضرر وان الصحيح على الأقل فى رأيي ان تنضج الثورة السورية من الداخل بدون تدخل أجنبي وان تساهم الدول العربية مجتمعه فى عزل النظام السوري والضغط عليه حتى تستجيب السلطة للشعب! وبالتوازي مع هذا الطرح يجب ان تكون تركيا حاضرة فى المشهد بقوة فهي تستطيع ان تتحالف مع العرب لتؤدي نفس الدور الضاغط على النظام السوري و عبر نفس آليات العرب. خلال الندوة وحتى قبلها كنت دائما ما اسمع تلميح منهم عن دور "غير مريح" لإيران فى ثورة سوريا وكأن هناك انتقاد موجه ولو عن استحياء ولكنى فوجئت بعدة امور لم اكن اعرفها عن الأتراك! هم لا يحبون الشيعية اطلاقاً.. وان كانوا لا يصرحوا بالقول وانما تفلت منهم كلمات لتصف التدخل الأيراني "الشيعي" فى سوريا. وقد يتبادر الى الذهن ان هذا نوع من التعصب لأهل السنة والجماعة، لكن ما ان تعرف عزيزي القارئ ان هناك شعور مكتوم بالريبة لكل ما يتصل بالسعودية حتى يتبدد وهم ان الأمر متصل بالشيعة او بالإنحياز الى السنة وانما في رأيي ان الأمر متصل بقضية قديمة متجددة وهى قضية الخلافة. لاحظ ان الشيعة تشيعوا الى الأمام على وبقوا على اعتقادهم بأن الخلافة للأمام على كرم الله وجهه وذريته من بعده وهو ما لا ينطبق على العثمانيين الأتراك. وفى حالة السعوديين، ارجوا ان تراجع عزيزي القارئ الأمر الصادر من الباب العالى الى محمد على باشا الكبير ليشن حملة لتأديب اهل الجزيرة العربية والقبض على "المهرطق" (هكذا وصفوه) محمد ابن عبد الوهاب و ومحمد ابن سعود الذى يعاونه بالرجال! من هذا السياق نفهم ان العلاقات التركية السعودية لم تكن على بداية موفقة اذا كان اى انتصار لواحدة يأتى دائماً على حساب الآخرى! وفى هذه الحالة الجائزة هى السيطرة على مكة والمدينة التى بدونهما تصبح شرعية اى خليفة ناقصة اوغير مكتملة. بقى ان القاسم المشترك بين الإثنان هو لقب خادم الحرمين الشريفين، ذلك ان العثمانيين ابتدعوا هذا اللقب والحقوه بلقب السلطان العثمانى وتبعهم ال سعود. ما رأيته فى تركيا يؤكد ان الأتراك عندهم اعتداد بقوميتهم بطريقة لا بأس فيها ولا خلط. واظن ان شعورهم بالفخر له رصيد من الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث لم يحدث ان فقدت تركية استقلالها غلى الرغم من خسارة ولاياتها الواحدة تلو الأخرى بعد ان أطلق عليها وصف رجل اوروبا المريض. وما ان سقطت الخلافة وبدأت تركيا رحلتها الى الأتحاد الأوروبى حتى ظهر ان هناك تاريخ مشترك بين الأتراك والأوروبيين به من الدماء والمواقف الراديكالية المعادية بين الطرفين يحول بين اتمام اندماج تركيا فى الأتحاد الأوروبي. كل هذا مفهوم وايضا العراقيل التى وضعت امام تركيا للإنضمام الى الإتحاد من قبل الدول الأعضاء المختلفة. لكنى ازعم ان هناك اشاكلية اخلاقية فى هذا الطرح تظهر ان اوروبا لا تستطيع ان تسموا فوق عنصريتها. الأشكالية تكمن فى ان الأوروبيين وخاصة الألمان استخدموا العمالة التركية (الرخيصة) في اعادة بناء المانيا التى تهدمت بعد الحرب العالمية الثانية. حتى ان المانيا وحدها بها على الأقل 2.5 مليون المانى من اصل تركي لهم مشاكل مع الدولة الألمانية على الحقوق الأساسية الغير معترف بها، وهذه حكاية أخرى لها مقام أخر. ما يعنينا الآن ان رفض أوروبا لإنضمام تركيا الى الإتحاد الأوروبي يبعث برسالة الى العالم الأسلامي، انه مهما كانت درجة الحداثة والتطور والمدنية فهي غير كافية لتصبح عضو فى الأسرة الدولية! هذه الاشكالية تلقى بضلالها على الأتراك بأنك تجد انهم فى كثير مما يفعلونه يندرج تحت شعار "لنظهر لأوروبا" وهذا فى رأيي خطأ يتوجب تصحيحه لأن المسار الصحيح هو ان تتبنى السياسات لأيمانك بها وليس لإظهار أى شيء لأى طرف خاصة وان كان خارج المجتمع والا تحول المجتمع كله الى ممثلين يؤدون دور مرسوم لمخاطبة آخر غير مكترث اساساً. نوع الحياة التى يعيشها الأتراك على الأقل فى استانبول تشبه الى حد كبير حياة الأوروبيين. فهم يعملون بمنتهى الجد والمحلات تغلق ابوابها مبكراً بإستثناء الكافيتريات والنوادى الليلية الخ.. ومن الأتراك من ينظر ورائه بحنين كالسيدة نورةالحياة الباحثة الأجتماعية التى رافقتنا فى جلسة مصغر قبل الندوة.. فاجأتنا بمنطقها وقالت.. "انا لا اطيق كل هذه الزحام الذى حولنا ولماذا على ان اقطع كل يوم رحلتى الى العمل فى اكثر من ساعة ونصف فى الذهاب ومثلها فى العودة! انى امكث بين الطريق والعمل اغلب يومي! ولا يوجد متسع بعد ذلك لعمل اى شيء إلا النوم! لماذا نشترى بيوت بهذه الفخامة والإتساع ونصرف عليها اموالاً طائلة ثم يكون نصيبنا منها مجرد النوم؟ انى اشعر ببعض من الآسى اننا فى تركيا نستخدم حروف ولغة غير تلك التى استخدمها آبائنا العثمانيين! تخيل، لكي نفهم ما الذى كتبه آبائنا، علينا ان نجد مترجم!؟".... ان تركيا التى نراها ليست ساكنة وانما تتطور بطريقة لافتة للنظر، هم فى رحلة التصالح مع الماضى وفى رحلة الإندماج مع روح العصر. كل من زارهم حتى سنوات قليلة مضت، قال انه لا يجد فرق شاسع بين مصر وتركيا. الآن يسبقوننا بفعل إدارة رشيدة وواعية وعندها من الكفاءات ما يستطيع التصدي للتحديات. ستبقى مشكلة قبرص، والأكراد، والأرمن، عقبات امام انضمامهم للإتحاد الأوروبي وعليهم ان يحلوا تلك المشاكل والا!! ثم ان المعضلة الآكبر فى رأيي هي فى شخص أردوغان رئيس الوزراء. الشعب يحبه، وهو قائد ذو كاريزما عاليه وما ان تسأل احد، من سيأتى بعد رجب طيب، حتى تشعر انه انتبه اشد انتباه، ونظر اليك بتفحص.. وبعد ان يهتدي الى انك أجنبي، يقول لك، لا اعرف...