للمفارقة العجيبة، الضباط الأحرار قبل قيامهم بالانقلاب الذى تحول إلى ثورة قرروا الاستعانة بشخصية كبيرة فى السن حتى يكون على حسب اعتقادهم واجهة لهم فى الحكم، فوقع اختيارهم على اللواء محمد نجيب، فكم كانت سن اللواء نجيب وقتها يا تُرى حتى يعتبروه شيخا طاعنا فى السن أو مسنا خبيرا قديما يخفى شبابية وخفّة الضباط الأحرار؟ كانت سن محمد نجيب واحدا وخمسين عاما! تَخيّل أن رجلا فى الخمسين وقتها كانوا يعتبرونه المسن العجوز، حتى إن أنور السادات حين تصارع الضباط الأحرار بينهم وأطاحوا بمحمد نجيب قال مقولة اشتهرت عنه وصف فيها نجيب بأنه «كبر وبيخرّف». لاحظ أنه كبر وبيخرف وكان فى الثالثة والخمسين من عمره! وقارن هذا بمن يحكم ويدير ومصمم على البقاء فى موقعه التنفيذى أو العسكرى أو السياسى أو يبحث عن منصب بالانتخابات أو بالتعيين وهو فى السبعين وفى الخامسة أو السادسة بعد السبعين من العمر، بل ولدينا رئيس حكومة فى التاسعة والسبعين سمح لنفسه أن يكون عنوانا على مرحلة مخجلة فى الفوضى والعشوائية والانفلات والانحدار السياسى والاقتصادى والأمنى نعيشها الآن، كأن الجنزورى مثلا بتمسكه المتشبث بالوزارة يحمى جماعة الإخوان من عناء تحمل المسؤولية وشيل الشيلة ومواجهة أزمات الغاز والبنزين والتموين والمرور والإضرابات العمالية والأجور وخلل الموازنة وانهيار الاحتياطى النقدى، لماذا؟ لأن الجنزورى لا يفكر فى حسن الختام! حتى النبى العظيم بقدره الرفيع ومكانته السامقة ومغفرة الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يدعو الله عز وجل أن يرزقه حسن الختام. الغريبة أن الرئيس السابق مبارك لم يفكر أبدا فى حسن الختام، والأغرب أن المشير طنطاوى وأعضاء «العسكرى» لم يفكروا فى حسن الختام.. ثم إن كمال الجنزورى من الواضح أنه لا يأتى على عقله أبدا حسن الختام، مع أن النبى الكريم شخصيا فكر واهتم ودعا بحسن الختام وطالبنا بالدعاء به. كان سعد زغلول متهما بالعلاقة مع اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى، ولم يتورع بعض خصومه ووصموه بأنه صنيعة الاحتلال، وتورط الرجل فى لعب القمار وصار مدمنا يشكو من إدمانه زوجته وأقاربه وأصدقاؤه، لكن يشاء السميع العليم أن يكف عن القمار ويقلع عن الإدمان ثم يتحول إلى بطل مصر وزعيم الأمة بعد عدة أشهر من تخلصه من الإدمان، وقد وصل إلى الرابعة والستين من عمره ورزقه الله حسن الختام. هذه نعمة من الله يأباها رجال الحكم فى مصر هذه الأيام سواء من عجائز السياسة الذين يصممون على البقاء فى الساحة رغم فشلهم وإفشالهم للثورة، أو فى تصديهم للترشح فى انتخابات برلمانية أو رئاسية! ففى صحيح البخارى من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم. وفى رواية للإمام أحمد فى المسند صححها الأرناؤوط: وإنما الأعمال بالخواتيم. وفى المسند: لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا. وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا. وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه. صححه الأرناؤوط والألبانى. كان الجبرتى، المؤرخ الأهم والأشهر فى تاريخ مصر، يكتب فى تلخيص أحداث سنة مضت واصفا لها «لم يقع بها شىء من الحوادث الخارجة سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم»، أو يكتب فى تعليق على نهاية أحداث عام فات أنه «لم يقع شىء من الحوادث التى نعتنى بتقييدها -تسجيلها- سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم»، والحقيقة أن الواحد كل يوم حين يسجل ما يجرى فى بلده يجد أنه لا جديد يكتبه أو يقوله إلا هروب أحدهم من دار العجائز ليتولى مسؤولية فى مصر بعد الثورة!