كنت أقف على الرصيف الذى سينطلق منه القطار المتجه إلى أسوان، كان برما يقف على الباب يلح علىّ بالمغادرة «خلاص يا معلم أنا مش مسافر أحج.. طير انت»، ما لم يفهمه برما أننى كنت أقف أونسه حتى يحين موعد المغادرة كما أننى كنت أود أن أستفيد منه قدر استطاعتى قبل أن يغيب عنى لفترة لم يحددها. الرئيس التوافقى يا برما. قال: سأنحاز للفكرة إذا كانت الأطراف التى ستتوافق عليه هى (الألتراس وسلفيو كوستا) فهما أكثر جهتين تعبران عن التركيبة المصرية، ففى كل بيت يوجد مشجع كروى واحد على الأقل وشاب ملتزم يرعى وسطية الإسلام كما ينبغى، الأول مخلص للمجموع بكل ما فيهم من حماس ووطنية غير مسيسة، والثانى مخلص فى سمعه وطاعته لسيدنا النبى عن محبة لا عن كارنيه يحمل توقيع المرشد العام، وكلاهما ستحبه فى البدلة الميرى وهو عائد من إجازة التجنيد وستجد صعوبة فى أن تستقبله ب«يسقط يسقط حكم العسكر». قلت له ولكن الناس فى بلادى يرتاحون بالفطرة للملتزمين دينيا ويفضلونهم على من سواهم، فقال: راحتنا للملتزمين دائما مشروطة بحسن الخلق، يفتتح شخص ملتحٍ محل بقالة فى أول الشارع فيحبونه ويفضلون أن ينفعوه، ممتدحينه «الشيخ سيد البقال راح، الشيخ سيد البقال جه» إلى أن يقع الشيخ سيد فى المحظور فيبيع البضاعة أغلى من سعرها أو يصبح مصدرا لبضاعة رديئة، وقتها سيتعاملون معه باعتبار «الشيخ سيد الحرامى راح، الشيخ سيد الضلالى جه» ستكون العقوبة مضاعفة بقدر ما كان الحب مبالغا فيه، ذلك لشعورهم بأنهم جرحوا عاطفيا فقد فتحوا القلوب بلا مسوغات بأمارة الدين ثم شمعوها بالشمع الأحمر بأمارة الأخلاق. قلت له: وهل هناك فرق يا برما؟ فقال: يقول سيدنا النبى «أحبكم إلىّ أحسنكم أخلاقا» ولم يقل أكثركم التزاما دينيا، وعندما سئل النبى «أى الإيمان أفضل؟» قال «خلق حسن»، كما يقول «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه» من ناحية قدم الخلق على الدين ومن ناحية أخرى سماهما كأمرين مختلفين.. فمن الوارد أن يطلب يد ابنتك من ترضى دينه، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أن أخلاقه نموذجية. لا بد من الجمع بين الاثنين حتى تكون جديرا بدخول البيوت والزواج، ثم إن سيدنا النبى نفسه قال إنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وعندما امتدحه رب العالمين قال عن سيدنا النبى إنه على خلق عظيم.. افتح قوس الخلق العظيم وضع بداخله تفاصيل كثيرة واحدة منها الالتزام الدينى، اعرف أنك من محبى سيدنا على رضى الله عنه.. يقول سيدنا على «أفضل الدين حُسن الخلق». أعتقد والله أعلم أن كل خلوق متدينٌ بالفطرة لأنه يخلص لأصل رسالة سيدنا النبى «إتمام مكارم الأخلاق»، لكن ليس شرطا أن كل ملتزم خلوقٌ، فسيدنا النبى يقول أيضا «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، فمن الوارد أن تكون جبهتك قد زُينت بزبيبة عظيمة ولكن ليس شرطا أن يعنى هذا أنك إنسان عظيم، بالضبط مثل الشخص الذى قال عنه سيدنا النبى إنه لم يصب من صومه سوى الجوع والعطش. الالتزام الدينى يجب أن يقودك إلى الخلق القويم لكن ما لم يحدث فستواجه مصير الشيخ سيد والناس عندنا لا ترحم. قلت له: طيب خد بالك من نفسك، الدنيا لبش اليومين دول، فقال: لا تقلق على العبد لله فأنا أعتبر نفسى شخصا محظوظا بالضبط مثل الحمام الذى يطلقون سراحه قبل المباريات، أنا من النوعية التى كلما اقتربت من شواية كبابجى فرحات ظهرت فى الأجواء مباراة مهمة تعيده إلى الغصون. قلت له: بس الدورى هيتلغى وفرصك فى النجاة ستقل، فقال: إذا كان حكم المحكمة لم يمنع مذيع مدينة البط من الظهور تفتكر قيمة الراحلين ستعوق البيزنس الكروى عن استكمال مسيرته؟ حضرتك بتحلم.. عودة الدورى أقرب لنا من رحيل العسكر. هنا بدأ القطار يتحرك فلوح لى برما قائلا: مش عايز حاجة من أسوان؟ فقلت له: عايزك تتبسط، فقال: عمرى ما حطيت رجلى بره القاهرة ورجعت متضايق.