استيقظ من نومي وأمد يدي تلقائيا لألقي عليه نظرة قبل بدء اليوم ..أسود غطيس مقطوع النَفَس..ما هذا الحظ ؟ يوم جديد مثل اليوم السابق.. يومياً أنظر إليه بعدم اكتراث ولسان حالي يقول "إمتى يا شيخ تروح في داهية وأرتاح من زنّك في وداني؟؟ " أرى في وجهه أشخاصا حاولوا الوصول إلي أثناء نومي..أتفقد مواعيد اليوم ، نظرة عابرة على البريد الإلكتروني ولا مانع من المرور على الفيس بوك..ينتهي الأمر بأن ألقيه بغير اكتراث بعد فتح "الجرس" ..علاقتنا معقدة بها الكثير من الحب والكراهية ، لكن لا أنكر أنه كدفتر الحضور والانصراف الذي يجب أن أوقّع عليه قبل النوم وبعد الاستيقاظ أعلن به للعالم أنني انتقلت من عالم الموت المؤقت إلى عالم اليقظة .. هو التقرير اليومي الذي يجب الاطلاع عليه قبل بدء الأعمال! نصف ساعة مرت وأنا " مش على بعضي"..أتفقده مجدداً لأجده " ميتاً " كما يقولون..لم يقع مني أمس وكان في "الشحن" حتى آخر لحظة..ربما تعب من كثرة التطبيقات التي استخدمها ..هذه وجهة نظر صحيحة بالتأكيد رغم سذاجتها الظاهرية..كنت أرفض استخدامه كأجندة أو كجهاز كمبيوتر رغم أنه مصمم لهذا الغرض، طالما فضّلت استخدامه للغرض الأساس الذي صُنع له : تليفون للضرورة عندما لا نكون بالمنزل ! لكن ماباليد حيلة..الأشياء تتطور ونتطور معها رغماً عنا ولا نستطيع مقاومة إغراء التقدم وما يمنحه لنا من آفاق ..وهاهي نبوءتي تتحقق.. الموبايل باظ لأنه لم يتحمل كل هذه الأشياء "البرامج كانت تقيلة عليه كما يقولون" ! هو التفسير الوحيد رغم شعوري أنني أميل في هذا الرأي لأن أكون" ربة بيت ساذجة".. يمر الوقت وأنشغل بالمعتاد من الأعمال وأنسى..لكن شيئ ما ينقصني ، وكعادتي أراجع أحداث اليوم لمعرفة ما يمكن قد يكون قد تسبب في اكتئابي ولو بغير وعي..لا يوجد اليوم غير موضوع الموبايل! أنا غير مظبوطة منذ الصباح، كأنني لم أشرب القهوة بعد..هل الاطلاع عليه في الصباح كشرب الكافيين يمنحني القوة المطلوبة كل يوم ،حتى وإن كانت مجرد قوة إيحائية ؟ قنبلة موقوتة تهدد الصحة والوقت والمال..طالما تمنيت العيش بدون ملاحقة الآخرين التي يتسبب فيها..أو العودة لسنوات ما قبل الموبايل..كيف أصبح لهذا اللعين كل هذه الأهمية؟ كأننا لم نكن نحيا قبل أن يصل إلينا هذا الشيئ المعدني الصغير العجيب؟ ماذا سأفعل بدونه؟ سأقوم بإصلاحه، يوم ويعود كما كان..لكن يوم واحد وقت طويل....جداً. كلما مرت الدقائق أتذكر شيئاً جديداً سأفوّته بعدم اعتمادي عليه..كيف سأعرف أن الأولاد قد وصلوا وعلي استلامهم بدون أن أسمع "رنّة" مشرفة الأتوبيس؟ كيف سأؤكد حجز الطبيب وأرقامه وموعد الكشف مُسجلين عليه وليس في ذاكرتي للأسف؟ حتى ذاكرتي تكاسلت وارتكنت إلى الاعتماد على هذا اللعين؟ عندي" 140 دليل" ، ووسائل أعوض بها غيابه، لكن يلزمني بذل بعض المجهود وأنا على غير استعداد.. الفيس بوك! نسيته وياللمصيبة، كيف أتابعه وأنا خارج المنزل وكيف سأتأكد أن أحداً لا أعرفه قد كتب تعليقاً سخيفاً على حائطي أو شتمني دون سبب كما حدث منذ عدة أعوام؟ ماذا لو وضع صورة غير ملائمة فيعتقد كل من يدخل صفحتي أنني شاهدتها ووافقت على وجودها بدليل أنني لم أمسحها.. احتمال ضعيف يحدث كل سنة مرة لكنه قد يحدث اليوم.. لا شيئ يغطيني..لهذا الحد أصبحت اعتمادية وعالمي "هش"، لاورقة مدون عليها أرقام ولا أي شيئ ملموس كل شيئ افتراضي ويضيع في لحظة.. لم يكن من المفترض أن أعتمد على التكنولوجيا الغبية، فبقدر الجهد المبذول فيها بقدر غدرها وعدم إمكانية الوثوق فيها. أكلم أمي من (الأرضي) لأشاركها أفكاري؟ أعرف ردها: "مش قلت لك خللي معاكي نوتة بكل الأرقام؟صعبة دي قوي؟ " لن أتكلم..تباً للتكنلوجيا ..المتغطي بيها فعلاً عريان..العجائز لهن وجهة نظر صحيحة أحياناً.. أتخيل أن أحد أجداد أجدادي عاد ليعيش معي يوماً واحداً..هل سيصدق حجم المخاطرة التي تحياها حفيدته ؟! راق لي هذا الخاطر الذي شغلني قليلأً عن مأساتي: أن أصبح بطلة خارقة في نظر هذا الجد المسكين.. بيوتنا ممتلئة بالأجهزة الكهربائية..ماس صغير وتكون الكارثة – الشر بره وبعيد اللهم عافنا – ومع ذلك نعيش المخاطرة اختيارياً أو إجبارياً لا نعرف. البنايات الشاهقة والذي لا يتردد أحدهم أن يجعل مقر سكنه فيها مُدركاً أنه سيركب "الكهرباء" طلوعاً ونزولاً مرات ومرات.. السيارة التي تقودها بسرعة 120 كم في الساعة وسط العشرات من السيارات..ألن يحدث خطأً بشرياً واحداً؟ لماذا إذن لا تأخذ حذرك؟؟ لا مجال للحذر وإلا فاخرج من دائرة الحياة العصرية..أو اقبلها وعش على صفيح ساخن جداً..إنها المدنيّة الحديثة..بل هي حياة الإنسان منذ الأزل وقبل الكهرباء والذرة واختراع الطائرات! فاكتشاف النار كان حدثاً فارقاً في تاريخ التطور البشري رغم فداحة ما تشكّله من خطر على الإنسان. تاريخ الحضارة هو رحلة الاكتشاف والمخاطرة..وحيث لا توجد مخاطرة لا يوجد تطور ولا توجد متعة.. وفي أبسط الأشياء تكمن المخاطرة ..فالمشروبات الساخنة تستلزم لصنعها تسخين الماء لمائة درجة مئوية ..ما أعجبك أيها الإنسان! وحتى نزول السلم العادي به نسبة من المخاطرة ! لا أحد يستطيع أن يوقف "عجلة" التطور، لكن هل نحن في "حاجة" بالفعل لكل هذه المستجدات؟ شبكات التواصل الاجتماعي جعلت الآخرين عند أطراف أصابعك وإن كانوا في الطرف الأدنى من الأرض..دائرة واسعة من الاتصالات لكن ماذا عن العلاقات؟ سطحية وعابرة وخادعة أحياناً. زاد الاتصال وقل التواصل..زادت القدرة على الوصول للمعلومات وقلت القدرة على تحليلها.. هل كنا في حاجة لكل ذلك؟ هل الحاجة أُم الاختراع فعلاً أو العكس هو الصحيح؟؟ دارت بذهني قصة "مجتمع المسدسات" التي نقلها المفكر الكبير د. جلال أمين عن كتاب لأحد أساتذة الاقتصاد في جامعة لندن ، حيث ترجمها وقدمها في مجلة الأهرام الاقتصادي في الثمانينيات ثم في كتابه رحيق العمر بعد أكثر من عشرين عاماً.. تلخص القصة حال دولة خيالية يتمتع المواطن فيها بحرية حمل السلاح دون ترخيص، فتزدهر تجارة المسدسات، وبالتالي تزدهر كل الصناعات المرتبطة بلوازم حمل السلاح وصيانته، وبالتالي صناعة الزجاج المضاد للرصاص للمنازل والسيارات، وكذا أعمال شركات التأمين ومصانع الأدوية المهدئة ! فالرواج الاقتصادي قد حدث بالفعل على كل الأصعدة، وساد منطق السوق والعرض والطلب مما أدى لانتعاش يمكن اعتباره نوعا من النمو الاقتصادي الظاهري..إلا ان ذلك لم يُثمرمنفعة حقيقية للمجتمع في هذا الطرح الذي يرفض فكرة النمو الاقتصادي كهدف في حد ذاته يجب السعي إليه، حيث يرمز الهوس بالمسدسات في القصة إلى الهوس بتكاثر السلع والخدمات في حياة الإنسان.. هل الحاجة أُم الاختراع؟؟ هل الاحتياجات البشرية هي التي تدفع الإنسان للاختراع أم أن طيش الإنسان ونزقه ورعونته الجميلة تدفعه للسعي نحو مجتمع الرفاهية بخلق حاجات غير موجودة أصلاً ثم اختراع أشياء لتلبية هذه الاحتياجات المصنوعة صُنعاً ؟؟ أتذكر مأساتي أنا وأنظر إلى الكائن المعدني الأصم.. لم يتأثر بقصة مجتمع المسدسات.. مازال كما هو.. أسود غطيس مقطوع النَفَس..ميتاً كما يقولون !