لم يخطر على بال أى أحد على الإطلاق بعد نجاح الشعب المصرى فى إسقاط الرئيس المخلوع أن الثورة قد تصل إلى هذه الدرجة من الغموض والعشوائية والتخبط فى إتخاذ القرار. والواقع أن هناك أسبابا واضحة قد أدت إلى هذا الإرتباك، وأن هناك أيضا جهات بعينها أرادت أن تقضى على الثورة فى مهدها عن طريق السعى نحو إفراغها من مضمونها وإيصالها إلى هذا الحد من التوهان والتفتت الذى ضرب جسدها من الداخل متمثلا فى القوى الرئيسية التى قامت بها. فلقد أصبح جليا الأن إلى كل متابع للأحداث الجارية أن هذه القوى التى تسعى إلى إجهاض الثورة والتى يطلق عليها " الطرف الثالث أو الأصابع الخفية " هى القوى ذاتها التى تدعى أنها قد حمت الثورة ودافعت عنها، والتى من الممكن – بالطبع – تفسير موقفها المعادى للثورة بإرتباط مصالحها بشكل أو بأخر بالنظام السابق . فالإجراءات الأخيرة التى تم إتخاذها من قبل السلطات الحاكمة فى البلاد توضح بما لا يدع مجالا للشك توفر النية المبيتة للإنتقام من جميع من شاركوا فى إشعال هذه الثورة النقية، والتى تسببت فى إحداث رجة عنيفة لأركان الفساد نتج عنها لجوء النظام للتضحية بحفنة قليلة من رجاله فى سبيل الحفاظ على كيانه المؤسسى الذى مازال مسيطرا على مقاليد الأمور فى البلاد. وقد تمحورت أدوات النظام التى لجأ إليها لتصفية رموز الثورة حول محورين رئيسيين هما : -"التصفية الجسدية" والتى تمت عن طريق القتل والسحل والإعتقال والتعذيب بهدف ثنى الثوار عن مطالباتهم المتصاعدة والملحة بضرورة تحقيق الأهداف التى قامت من أجلها الثورة. -"التصفية المعنوية" والتى تم تنفيذها بإستخدام وسائل الإعلام الحكومية التى مازالت تمثل وجه النظام القبيح، والتى تم إستغلالها فى تشويه الثوار وإظهارهم بصورة البلطجية والمخربين ودعاة الفوضى طوال الوقت فى أعين الشعب المسكين الذى لا يمتلك من أمره حولا ولا قوة. أما الغريب فهو أن هذا الشعب قد لعب دورا مؤثرا فى القضاء على ثورة لم يقم بها غيره بهدف إسقاط نظام قمعى تفنن فى إذلاله وإفقاره وتحييده على مدار ثلاثين عاما.. فقط لأنه لم يمتلك النفس الطويل الكافى لإستكمال عملية الهدم التى بدأها فى جسد النظام، والتى قامت تلك الثورة باالأساس من أجل إتمامها. فمن المعروف عن الشعب المصرى بطبيعة تركيبته أنه شعب يتسم بالمحافظة ويعشق الإسقرار، ولا يميل بأى حال من الأحوال إلى الراديكالية أو التغيير المفاجأ للواقع الذى يعيشه، حتى ولو كان كارها لهذا الواقع.. إلى الدرجة التى جعلته يعتقد أن عملية إسقاط نظام متشعب ومستبد كنظام مبارك سوف تبدأ وتنتهى مثل "شكة الإبرة" دون الحاجة إلى مجرد الإنزعاج أو القلق، ودون اللجوء إلى تغيير نمط الحياة الذى إعتاد عليه ولو بالمقدار القليل . لم يدرك الشعب المصرى – وأخص بالذكر الكتلة الصامتة – أن عملية إسقاط النظام وما يعقبها من إجراءات سريعة – التى قد تكون راديكالية فى بعض الأحيان – تتطلب القيام بعملية تطهير واسعة، تستوجب معها إجراء جراحة خطيرة يتوقف عليها مستقبل الأمة، لإستئصال سرطان الفساد الذى خلفه النظام الساقط وراءه فى جميع أركان الدولة. والأن، وبعد مرور عام كامل على قيام ثورتنا المجيدة.. ربما يكون النظام قد نجح فى محاولاته لإقناع البعض بالإسطوانة البالية التى تتحدث عن الفوضى كبديل عن الرئيس المخلوع، وقد نجح فى إقناعهم أيضا أنه لم يكن من الحكمة الإطاحة بالرئيس السابق دون إعطاءه الفرصة فى تصحيح المسار بعض الشىء.. غير أن حقيقة الأمر هو أنه من السذاجة الإعتقاد بأن الرئيس المخلوع كان يمتلك بعض من الذكاء الذى يؤهله لإستغلال فترة الستة أشهر التى طلبها لإجراء بعض الإصلاحات، ولتصحيح الأخطاء الفادحة التى تسببت – فى المقام الأول – فى الإطاحة به وبدائرة اللصوص التى أحاطت به، دون السعى نحو الإنتقام ممن خرجوا بهدف تنحيته عن الحكم.. ما يزيل – بالطبع – أى فوارق بين سياسة التنكيل بالثوار والنشطاء التى نشهدها فى الفترة الحالية بعد التأكد – للأسف – من بقاء النظام دون الرئيس، وبين نفس السياسة التى كان من الممكن أن نشهدها إذا بقى النظام وعلى رأسه بقى الرئيس.