كنت أخرج إلى المظاهرات وحدي غالباً لأني لم أكن أجد من يريد الذهاب معي، ولكني لم أشعر بالوحدة قط. وفي أحد الأيام الأولى للثورة اقترب مني شاب لا يتعدى الخامسة والعشرين من عمره، ذو وجهٍ من النوع الذي ترتاح إلى ملامحه، وسألني: هل سننجح! فأجبته على الفور: نعم، أكيد! قلتُها وأنا غير واثقٍ فيها، لكننا فعلناها. تجاذبنا أطراف الحديث، هو شابٌّ مهذب، ذكي، قوي البنية، من منطقةٍ شعبيةٍ في الإسكندرية تسمى (زعربانة)، ليست بعيدةً عن منطقة كفر عبده (الراقية) حيث أسكن، ولكن المسافة بينهما ربما تبدو أبعد بكثير مما هي في الواقع. أخبرني أنه يعمل في شرم الشيخ، وأنه قضى يومين في الطريق من شرم الشيخ إلى الإسكندرية ليشارك في الثورة، وحالما وصل انضم إلى المظاهرة قبل أن يذهب لرؤية أبيه وأمه، كان في غاية الإرهاق من طول الطريق الذي كان مليئًا بحواجز التفتيش وغير آمن، حدثني عن أهوالٍ رآها فيه، وعن المساجين الذين يقتلون ويُقتلون، كان متعبًا، وكنت متعبًا، مشينا وهتفنا وصلينا وأنشدنا وضحكنا وتمازحنا وأكلنا سويًّا، فعلنا كل شيء كصديقين حميمين يعرف أحدهما الآخر منذ سنين. ثم حل الظلام، وبدأ الناس في الانصراف، وكان يتوجب عليَّ أن أنصرف لأنضم إلى اللجان الشعبية في الحي الذي أقطنه. تعانقنا وودَّعنا بعضنا بكلمات التشجيع، يشد من أزري وأشدُّ من أزره. وبعدما ذهبت تذكَّرتُ أني لم أسأله عن اسمه، وأنه لم يعرف اسمي! هو حقًّا صديقي الذي لا أعرفه. وعندما حاصرتنا قوات الأمن المركزي يوم 25 يناير في آخر شارع بورسعيد بالإسكندرية وبدأ الضرب، أخذت أنادي على زميلي العزيز سيد تركي: ما تخافش يا سيد، ما تخافش يا سيد، وأنا أكاد أموت من الخوف، ثم لم أره بعد ذلك. استندت إلى بوابة حديدية لأحد المحلات أحاول التقاط أنفاسي بعيداً عن الغاز، ومن شدة ضغط المتظاهرين المذعورين من شدة البطش سقطت البوابة –الحديدية– وسقطت أنا على ظهري داخل دكان صغير لا تتجاز مساحته عشرة أمتار، وإذا بالعشرات بل ربما المئات يتدافعون هربًا من الضرب والقنابل المسيلة للدموع إلى داخل الدكان، وأنا ملقًى على الأرض، يدوسون عليَّ بأقدامهم من دون أن يشعروا، ولا يمكنهم بحالٍ من الأحوال أن يشعروا بأنني وغيري ملقون على الأرض لا نستطيع الحراك. حينها شعرت بدنو أجلي، شممت رائحة الموت، اللحظة التي كنت أخشاها، وعجبت كأشد ما يكون العجب لأني استقبلت هذه اللحظة بسكينةٍ وطمأنينةٍ غريبة، أدركت أني سأموت ولكني سأموت بشرف، سأموت ميتةً أتمناها، وإن كنت تمنيت ساعتها ألا أموت تحت الأقدام. المهم أني لم أمت، استطعت الوقوف بمساعدة شابٍّ لا أدري من هو ، واستطعت الهرب بعد أن تلقيت ضربًا مبرحًا. حينما تواجه الموت في لحظةٍ معينةٍ ثم تمر يقل خوفك منه جدًا، ويزداد تمسكك بالقضية التي عرضت نفسك للموت من أجلها، ببساطة: لم يعد لديك ما تخشاه. يوم الأربعاء الشهير، يوم موقعة الجمل استيقظت صباحًا على صوت مظاهرة حاشدة آتية من بعيد، فأسرعت في ارتداء ملابسي لأنضم إليها، ظنًّا مني بأنها مظاهرة الثوار التي كنت أنضم كل يوم ثم نكمل طريقنا إلى وسط المدينة. نزلت مسرعًا، فوجدت شابًّا في إحدى الشرفات البعيدة يسب (المتظاهرين) وينعتهم بالخونة، ظننته مؤيدًا للمخلوع، فإذ بي أفاجأ أن الشاب على حق، وأن (المظاهرة) بأكملها مؤيدة للمخلوع، ترفع صوره وتهتف باسمه. كانوا حوالي ثلاثمائة شخص، أشكالهم عجيبة كالعادة، لكني لم أتردد، دسست نفسي وسط المظاهرة، وحينا أصبحت وسطها تمامًا هتفت بأعلى الصوت: يسقط يسقط حسني مبارك، ثورة ثورة حتى النصر، ثورة في كل شوارع مصر. لم أسلم بالطبع من السب والشتم بأقذع الألفاظ، والدفع بالأيدي والركل بالأقدام، ولكني لم أكن خائفًا أبدًا، لم أكن أحس بأني وحدي، بل أحسست أني مائة رجل، ألف رجل، كتيبة كاملة. سرتُ معهم يهتفون وأهتف، يقولون وأقول، حتى صار صوتي أعلى من صوتهم، حتى انضم لي أناسٌ من المتفرجين ومضينا حتى انضممنا إلى الثوار. يا من نأيتم بأنفسكم عن الثورة منذ البداية – وما زلتم: لقد كنا خائفين أيضًا، ولكنا كرهنا أن تمر اللحظة من دون أن نكسر حاجز الخوف في داخلنا، لقد قدمنا شيئًا لوطننا، لقد عملنا أخيرًا بديننا ومبادئنا، لقد أصبحنا رجالاً! سقط الرجل الذي بجانبي يوم سقوط أمن الدولة فقُتل في الحال، فكرهت الموتَ مرةً أخرى، ولكني أبدًا لن أسمح للخوف بأن يقهرني مرةً أخرى. هل تدركون الآن لماذا نغار على ثورتنا؟