فى الصباح الباكر، كعادته دائما، ترك كريم فهمى البحيرى شقته الفخمة فى ضاحية توسون الخاصة بالأثرياء، شمال مدينة بلتيمور، والتى يسكن فيها منذ أن جاء للدراسة فى قسم العلوم السياسية بجامعة جونز هوبكنز، متجها إلى مقر الجامعة الرئيسى المعروف ب"الهووم وود". كان الثلج يملأ الشوارع فى ذلك اليوم، وكان بالمصادفة يوم عيد الحب: الرابع عشر من فبراير. كان اللون الأبيض يسيطر على المشهد تماما ويبعث فى النفس السرور ويثير المشاعر ويلهب الأحاسيس. أحس كريم أن مدينة بلتيمور سوف تكون فى غاية السعادة فى ذلك اليوم، وأنها سوف تحتفل بنغمات وأغنيات وأشعار الحب الرومانسية والحسية على إيقاع ودفقات الثلوج المتساقطة على أرضيات الشوارع وأسطح البيوت وحدائقها الأمامية والخلفية وعلى الحدائق العامة والأرصفة والأشجار، خصوصا أن الثلج لا يتوقف عن الهطول على مدينة بلتيمور الصغيرة. وأيقن أن ذلك سوف يجعل أهل مدينة بلتيمور وضواحيها يحتفلون بالحب فى ذلك اليوم بمنتهى السعادة بسبب انهمار الثلج المتواصل الذى يشجع تسقاطه على الدخول إلى دنيا الحب والولوج إلى عالم المتعة اللانهائى؛ وأيضا لأن أهل بلتيمور يحبون الثلج كثيرا ويبتهجون لسقوطه ويشتاقون إلى وجوده ويحنون لمنظره وهو يملأ شوارع مدينتهم الجميلة من العام للعام. لقد كان الثلج كثيفا للغاية فى الشوارع ووصل إلى حوالى خمس أو ست بوصات. عرف كريم أنه ليس هناك دراسة بالجامعة إلى الآن، فتعجب، ثم أكد لنفسه أن ذلك اليوم يعتبر يوما تاريخيا، وليس تاريخيا كوصف كل زيارة يقوم بها الرئيس المصرى حسنى مبارك إلى أية مدينة أو دولة كبيرة أو صغيرة فى أية منطقة من العالم؛ تاريخى لماذا؟ لأن ذلك اليوم ربما يعد من المرات القليلة فى تاريخ جامعة جونز هوبكنزالتى تعلن فيها الجامعة عن تأخير الدراسة إلى حوالى العاشرة والنصف صباحا؛ فكل شىء فى هوبكنز يسير بانضباط كالساعة. لم يكلف كريم أن يسأل نفسه وهو فى طريقه إلى الجامعة إن كانت سوف تنتظم الدراسة فى الجامعة فى ذلك أم لا؛ لأنه يعلم أن الدراسة منتظمة فى هوبكنز باستمرار ولا تغلق الجامعة أبوابها، كما يقال عادة فى مصر على الجامعات وغيرها من مؤسسات الدولة العتيقة، إن كانت لها أبواب، مع العلم أن جامعة هوبكنز ليس لها أسوار أو حتى أبواب مغلقة ولا حتى حرس جامعى مثل الموجود فى مصر، أم الدنيا، الذى يمنع دبة النملة من الدخول أو الخروج، بل إن حرس هوبكنز غير مسلح على الإطلاق ودوره يقتصر فقط على تأمين المنشآت والأساتذة والعاملين والطلبة، عند الضرورة، وعلى الرغم من أن أغلب حرس هوبكنز جاء من رجال البوليس السابقين، فإنهم يتعاملون مع الجميع بطريقة ودية وفى منتهى التعاون والمساعدة والحب والرقى والاحترام. فى تمام العاشرة والنصف صباحا، أعلنت الجامعة أنه لا دراسة بالجامعة طوال ذلك اليوم. أحس كريم أنه أخذ مقلبا كبيرا؛ فأين يذهب وماذا يفعل فى هذا الوقت المبكر من اليوم؟! شعر بالملل، فذلك اليوم من أعياد الحب التى مرت به، خصوصا فى الولاياتالأمريكية، يبدأ مبكرا، على عكس العادة، وتلك المرة لم يشتر هدية لحبيبته بعد. أخذ يتسكع فى الشوارع المحيطة بالجامعة لا يعرف ماذا يفعل. كان متواعدا مع حبيبته جليلة الغنام، التى تدرس العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى مرحلة الليسانس فى هوبكنز، ابنة رجال الأعمال المصرى الأمريكى المعروف ممدوح الغنام، والتى يدلعها كريم، عندما يكون راضيا عنها، ب"جلجلة"، على قضاء عيد الحب معا بعد انتهاء الدراسة بالجامعة فى ذلك اليوم، غير أن القدر غير خططه فى ذلك اليوم، فلم يغضب بل اعتقد أن القدر ربما يكون قد ادخر له مكافأة فى ذلك اليوم وهو أن يقضى اليوم بطوله مع حبيبة القلب، جلجلة، فى شقتها المجاورة للجامعة فى شارع سان بول. أدهشه منزل الثلج الذى كان كثيفا جدا ورأى السيارات تسير ببطء، وشاهد بنتا تجرى مع كلبها الأليف فى نزهة فوق الثلج المتساقط كنتف القطن البيضاء. ولمح رجلا يتزلج على الجليد فى مساحة صغيرة، غطاها الثلج كلية، من حديقة عامة للأطفال، بالقرب من تقاطع شارع نورث تشارلز مع شارع 29. وأخذ يتابع عجلات السيارات المتلهفة للقاء العشاق والعشيقات التى تدوس فى طريقها الثلج، فأحالت لون الثلج الأبيض إلى لون غامق يميل إلى الاسمرار نوعا ما. وبينما كريم سائر لا يعرف ماذا يفعل، سار أمامه فتى صينى طويل، فترك كريم له الرصيف الممتلىء بالثلج إلى نهر الشارع الضيق الخالى من الثلج بفعل عجلات السيارات المتتالية التى رمت بالثلج بعيدا عن أرضية الشارع فوق الرصيف الجانبى الملاصق للجانب الغربى من شارع نورث تشارلز بالقرب من الحديقة العامة. قرر كريم أن يتجول بالجامعة بعض الوقت؛ لأنه يعلم أن جلجلة لا تصحو مبكرا، خصوصا أنها قد تكون عرفت بتأخر الدراسة أو بإلغائها فى ذلك اليوم، وهى لا تأتى عادة إلى الجامعة كثيرا وتذهب إلى زيارة أمها الأمريكية المقيمة فى مدينة نيويورك وقضاء العطلات معها، خصوصا عطلة نهاية الأسبوع. شاهد عمال الجامعة منهمكين فى تنظيف ممرات المشاة داخل الجامعة. كانت هناك سيارات ذات جرافات تزيح الثلج جانبا وترش الملح من ماكينات معلقة خلف تلك السيارات. وكان هناك أيضا عدد من العمال الأمريكان ذوى الأصول الأفريقية يزيح الثلج الكثيف فى الممرات بماكينات صغيرة تسحب الثلج إلى أعلى وتلقى به على الجانب. ويسير خلفهم عدد آخر من نفس العمال يدفع بما بقى من الثلج خارج الممرات، بينما بقيت قطع ثلجية مثل الزجاج الشفاف على أرضية الممرات قد تشكل خطورة للمشاة. ذهب إلى مبنى الذى يوجد به قسم العلوم السياسية ليرى إن كانت قد وصلت إليه أية رسائل من شخص أو جهة ما. وجد القسم مغلقا. أدخل مفتاحه فى الباب. راجع صندوقه البريدى فلم يجد شيئا. سار ببطء وهو خارج من المبنى. قابل بعض الطلبة. تذكر كريم سؤالا قد سألته له إحدى الطالبات الأمريكيات فى إحدى الفصول الدراسية التى كان يعمل معيدا بها: -هل تحتفلون بعيد الحب فى البلاد العربية؟ فأجابها: -بعض الدول العربية تحتفل به، والبعض لا يحتفل به. وهو غالبا احتفال رومانسى، وليس جنسيا كما هو هنا فى أمريكا. ففى مصر، على سبيل المثال، يخرج العشاق والعاشقات ويتنزهون على شاطىء النيل فى جلسة عاطفية جميلة. فردت الطالبة على الفور راغبة ومرحبة وفى إشارة ذات مغزى: -إننا نريد الحب المصرى هنا فى أمريكا. خرج كريم من الجامعة قاصدا المحلات التجارية فى شارع سان بول كى يشترى هدية ما لحيبيته جلجلة. وبالفعل اشترى لها شيئا مناسبا يعلم أنها تحبه كثيرا وقرر أن يكون أول من يصافح وجهها الجميل فى ذلك اليوم، فتوجه على الفور إلى شقتها ووقف أمام باب شقتها بينما يده تضغط على الجرس. كان قلبه يدق بشدة من كثرة شوقه لرؤية حيبيته التى لم يره منذ يوم واحد وعده وكأنه عام بطوله. دون شك سوف تكون مفاجأة سعيدة لها. انفتح الباب وأطل منه وجه جلجلة الجميل مرحبا.