لم أفهم من الكلام الذي نشرته صحف الأربعاء منسوبًا لوزير التربية والتعليم الدكتور أحمد زكي بدر وهاجم فيه بخفة وعنف تحريم وإلغاء الضرب والعقاب البدني للتلاميذ في المدارس، إلا أن الرجل مشكورًا حريص جدًا علي ألا يخيب ظن العبد لله في سيادته، بل يمنحني فرصة ثمينة لاتُقدر بأي كمية من الباذنجان لكي أتفاخر وأختال علي القراء المساكين وأمارس عليهم هواية ادعاء الحكمة بأثر رجعي وأهتف بحماس في وجوه الجميع: جالكم كلامي.. ألم أقل لكم إن تعيين هذا الرجل في منصب وزير التعليم سوف يضطر منظمة العفو الدولية «إمنستي» إلي توسيع نطاق تقاريرها عن مصر وإضافة فصل جديد مخصص لرصد ممارسات التعذيب المنهجي في المدارس والمنشآت التعليمية إضافة إلي السجون والمعتقلات ومراكز الشرطة؟! وبعد أن اغتنمت الفرصة وتفاخرت فعلاً علي خلق الله، أعود إلي كلام معالي الدكتور «بدر» الذي قاله أمام أعضاء مجلس الشوري الموقرين وانطلق فيه مما اعتبره حقيقة لاي رقي إليها الشك، خلاصتها أن المُعلم أضحي «ملطشة» ولا يحظي بأي احترام من جانب التلاميذ وأولياء الأمور علي السواء، وقد أفتي سيادته بأن السبب في ذلك هو إلغاء «الضرب» كوسيلة للعقاب، وفي محاولة من الوزير لإفحام مستمعيه الموقرين (المفحومين أصلا) بدليل دامغ يثبت صحة فكرته عن العلاقة الوثيقة بين الضرب والتلطيش وإهداء المجتمع والوطن أشخاصًا مهذبين وممتازين علمًا وخلقًا، فإن سيادته قدم نفس معاليه شخصيًا كنموذج ناجح لمنهج التربية بالضرب واعترف (حسب المنشور في الصحف) قائلا: «أنا فاكر أن المدرسين بتوعي كانوا بيضربوني عشر عصيان علي إيدي ولما كنت باتعب كانوا بيكملوا العصيان الباقية في اليوم التالي»!! هذا الكلام لو أخذناه علي محمل الجد وتجاهلنا ملامح الهزل الفاقعة التي تنضح منه، فسنجده يثير ثلاث ملاحظات علي الأقل، أقواها وأولاها في الأهمية عند كاتب هذه السطور هي اعتراف معالي الوزير بأنه كان ب «ينضرب» في المدرسة ولهذا فقد شب معاليه علي الشاكلة الممتازة التي نراها، وهنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من السؤال علنًا عما إذا كان سيادته يصلح دليلا علي صحة منهج «التربية بالضرب» أم أن جنابه ربما يجسد الدليل العكسي، أي سوء عاقبة اتباع هذا المنهج؟! وأما الملاحظة الثانية، فملاحظة مزدوجة شقها الأول يخص الحكم القطعي الذي مدَّ جناب الدكتور الوزير رجليه وأصدره مؤكدًا أن المدرس أضحي «ملطشة»، دون أن يكلف نفس سيادته مشقة دعم هذا الحكم بمعلومات وإحصاءات موثقة تشير إلي أن الأمر تحول فعلا لظاهرة استفحلت وبلغت مستوي الخطر، وإذا كانت كذلك وهذا هو الشق الثاني من الملاحظة فما أسبابها العميقة التي عكف علي دراستها متخصصون مؤهلون للبحث في مثل هذه الظواهر والتنقيب عن أصولها في بنية المجتمع ومؤسساته التعليمية والتربوية والإعلامية والسياسية كذلك؟! تبقي الملاحظة الثالثة، وهي مترتبة منطقيًا علي الملاحظة السابقة بشقيها، فاستسهال الفتوي بالعافية وإصدار أحكام انطباعية علي طريقة الجالسين علي المصاطب تحت الظلال الوارفة لأشجار ثمرة الجميز اللذيذة، ومن ثم التعالي فوق أصول مناهج العلوم الاجتماعية والتربوية المطلع عليها أهل الاختصاص، واللجوء مرة أخري لفتاوي وتفكير «مصطباوي» يرد ظاهرة غير مدروسة أصلا (المدرس الذي أصبح ملطشة) إلي سبب «تلطيشي» عبيط ومزيف هو إلغاء الضرب والعقاب البدني في المدارس، هذا كله يقود إلي استنتاج أن معالي الوزير غالبًا أصدر فرمانًا يقضي بالعودة إلي استخدام هذه الوسيلة العقيمة والمدمرة نفسيًا وعقليًا أيضًا! بيد أن أخطر ما قد يترتب علي طريقة الوزير أحمد زكي بدر في التفكير واعتماد كلام سيادته آنف الذكر كحقائق وحيثيات مقبولة لصنع سياسات تربوية وتعليمية، أن ضرب التلامذة بالعصي و«الخرزانات» و«الأحزمة» ذوات «التِّوك» المعدنية، لن يكون كافيًا ولا ناجعًا وستكون وزارة سيادته في حاجة ماسة وعاجلة لميزانية مالية هائلة تخصص لشراء أسلحة وذخائر ووسائل قمع وعقاب مدرسي أشد فاعلية وأكثر ملاءمة لحالة أولادنا.. يعني أنا شخصيًا أسكن بجوار مدرسة إعدادية وأعاني يوميًا معاناة شديدة من الضجيج والجلبة التي يحدثها التلامذة عندما ينزلون إلي «الفسحة»، ولا يبدو أن هناك وسيلة لتأديبهم وكم أفواههم وإسكاتهم تمامًا ونهائيًا إلا قصف «حوش» المدرسة، ساعة الفسحة، بقنابل الغاز المسيل للدموع وقنص التلامذة الأكثر شقاوة بزخات من الرصاص المطاطي أو حتي الرصاص الحي!!