منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام جرت أحداث قصة بني إسرائيل مع نبي الله موسى عليه السلام على أرض مصر في سيناء، فبعد أن شق عليه السلام البحر بعصاه، وشهد قومه تحقق المعجزة بأعينهم، وأنجاهم الله من بطش فرعون وملإه؛ واستقر بهم المقام بين جبال سيناء؛ واعد الله موسي أربعين ليلة غاب فيها عن القوم، وبمجرد أن اختفى عن أنظارهم عادت إليهم طباعهم الشريرة الكافرة، فصهروا الذهب الذي سرقوه من المصريين وصنعوا عجلاً له خوار وعبدوه، فلما عاد موسى من لقاء ربه فوجئ بكفرهم وسرعة نسيانهم لمعجزة إنقاذهم، فغضب عليهم وأحرق العجل، وبعد هذه الحادثة بعدة سنوات زحف موسى على رأس بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة التي يسكنها الجبارون، فخذلوه في الموقف الذي ذكر تفاصيله القرآن الكريم: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) - المائدة، فرّق الله تعالى بين موسى وهارون وبين بني إسرائيل الفاسقين، وكتب عليهم أن يتيهوا بين جبال سيناء لأربعين سنة عقابا لهم على ما ارتكبوه في حق الله. ما يهمنا في هذا السرد المختصر لبعض الطباع المريضة التي يتسم بها بنو إسرائيل هو مدة التيه؛ أربعين سنة (يُغربَل) خلالها الجيل الذي عصى، ويكبر الجيل الجديد من الأطفال والناشئين الذين لم يخطئوا في حق الله، وليس لهم دور في المعصية. ومرت ثلاثة آلاف عام وما زلنا في مصر عام 2011، فنجد تساؤلا واحدا فرض نفسه على الساحة هو: هو احنا رايحين على فين ؟ أو: هي مصر رايحة فين ؟ وهو تساؤل يوحي؛ بل يؤكد؛ أن مصر دخلت بعد الثورة المبروكة في مرحلة التيه، فالمرحلة الراهنة لا شكل لها ولا ملامح، وكل الاحتمالات مطروحة، ما نعلم منها وما لا نعلم، المجلس العسكري يبذل كل ما في وسعه ليطمئن الشعب على المستقبل، وأنه يسعى ويتوق إلى تسليم الحكم إلى السلطة المدنية المنتخبة، والخلايا النائمة أفاقت، والأحزاب المّيتة دبت فيها الروح مرة أخرى، والقوى وطنية وقومية، وإسلامية ومسيحية وعلمانية، يمينية ويسارية، قيّمة وغير ذات قيمة، مترفعة أو ذات قاعدة شعبية، الكل يدلي بدلوه ويعلو صوته برأيه، وكلما ازداد زحام الأصوات وارتفع الزخم؛ كلما ازداد الشعور بالتيه في نفوس المصريين، وبخاصة في ظل حالة الخواء الأمني في الشوارع والميادين، والقرى والمدن، والتي ترسخ حالة التيه والتخبط في نفوس المصريين، ليظل التساؤل المُلِحّ: إحنا رايحين على فين، هو دليل حَيرة الشعب في مرحلة التيه التي تميزها عدة سمات: أولها: تضارب الأقوال والتوقعات والتقويمات وردود الأفعال بعد كل حادث، مع تعيين كل وزير في الحكومة أو إقالة أي محافظ أو مدير أمن، مع إصدار أي بيان من المجلس العسكري، مع أي تحرك على الحدود مع غزة أو إسرائيل أو ليبيا. ثانيها: عدم وجود نقطة التقاء بين الآراء المختلفة، وخاصة إن كان الأمر يخص حدثا خطيرا كمقتل المتظاهرين ومحاكمة القتلة، أو الدستور أولا أم الانتخابات، أو المبادئ فوق الدستورية، أو نوع الدولة المرتقبة؛ دينية أم مدنية. ثالثها: لا يوجد طرف واحد مهما بلغت قدرته على الاستنتاج والبحث يستطيع أن يقدّر طول المرحلة الانتقالية، أو أن يحدد مؤشرات لقياس مدى نجاح أو فشل الثورة. رابعها: وهو الملمح الصادم والأهم؛ الرغبة الملحّة عند كثير من المصريين في الهجرة، القادرون يسعون إلى اللحاق بقطار الهجرة إلى كندا ونيوزيلاند وأستراليا وأمريكا، وغير القادرين يتمنون الخروج إلى السعودية والإمارات وقطر؛ ومن هؤلاء فئة غير قليلة لازالوا يتخذون الطريق الأصعب والأكثر خطورة؛ الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا في مراكب الصيد التي قد تعبر بهم إلى إيطاليا فلا نعرف عنهم شيئا، وقد تعجل بنهايتهم وسط أمواج البحر المتلاطمة والعواصف الهوجاء. سادتي.. إن مرحلة التيه بعد الثورة علامة على صحتها، وغَلَبَة أيديولوجيتها على ما عداها من أفكار وأيديولوجيات، وهي ضرورية لغربلة القوى الفاعلة في المجتمع، ليبقى بعدها في الأرض ما ينفع الناس، كما قرر القرآن: (أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) - الرعد 17، وأدعو الله ألا تطول مرحلة التيه لعشرات السنين كبني إسرائيل، ولعلها تكون قصيرةً متوافقةً مع تطور العصر في العوامل التي تعجّل عملية الغربلة، فيتبين ما ينفع الناس فيبقى، والزبد والغثاء ليذهب جفاء .. واسلمي يا مصر..