كان دخول السرير الطبي حاملا المتهم محمد حسني السيد ابراهيم مبارك إلى قفص الاتهام الحديدي أمام أعين الملايين في العالم ؛ إيذانا بدخول مصر إلى عصر سقوط الحصانة، فها هو رئيسها وجبارها لثلاثين سنة، الذي كان يأمر فيطاع، ويتحكم في مصائر ملايين المصريين تحَكُّم الآلهة، ويمشي فخورا مغترا بقوته وجبروته وسطوته، ها هو الآن يرقد متمارضا على سرير في قفص حديدي، يحاول أن يداريه ابناه، أمام هيئة المحكمة الموقّرة المحترمة (فعلا) ليسأله أعضاؤها عما نُسب إليه من جرائم واتهامات؛ فينكرها جميعها، ويصبح للمرة الأولى في حياته تحت رحمة القانون، بعد أن كان هو الذي يكتبه، فسبحان المعز المذل ! ولكن يجب ألا تلهينا اللحظة عن تدارس ما حدث، فمبارك لم يصبح ديكتاتوراً بجهده منفردا مع أفراد أسرته وحاشيته، وإنما تشابكت عوامل عديدة، وتضافرت أسبابٌ شتى لتكوّن في آخر المطاف طاغية متميزاً، فيه كل صفات من سبقه من الطغاة والجبارين، وأهم هذه الأسباب والعوامل هم الناس أنفسهم.. فمن الناس من سبّح بحمده وقدّس له ولحس حذاءه وكان مستعدا أن يذبح أبناءه طلبا لرضاه، ومنهم من قاومه واعترض عليه ، والغالبية العظمى صمتت، وبصمتها طبقت المثل الشعبي (السكوت علامة الرضا) ، فاعتُبر سكوتها موافقة على طغيانه، ومبررا لتماديه في ظلمه وجبروته وعنفوانه، ودارت عجلة الأيام وعلامات التقسيم في المجتمع تزداد حدة ووضوحا، المنافقون اللحاسون في النعمة يرفلون، والقلة المعارضون في المعتقلات والسجون، والأغلبية الصامتون بقسمة الله راضون، حتى أراد الله لهذا الشعب أن ينتفض ويثور، لأن بقاء الحال على ما كان عليه هو ضد حركة التاريخ، ولا يتوافق مع المنطق أو مع القوانين الحاكمة للدنيا إذن .. فما حدث مع مبارك كان ظاهرة إنسانية ليس فيها عوامل خارجة عن سيطرة بني الإنسان، ومن تسبب في حدوث هذه الظاهرة هم المصريون أنفسهم، فكتاب الصحف ورؤساء تحريرها لطالما أفردوا الصفحات في الجرائد والمجلات التي ينفق عليها من مال الشعب للحديث عن حكمة الرئيس التي لا تُبارى، وصفاته التي ترقى به إلى مصاف الآلهة، ويقنعون الناس أنه دائما على صواب في قراراته وخطاباته التاريخية، وأن الناس هُم سبب كبوة البلاد وتخلفها، وبينما كانوا يغرفون من المال الحرام لقاء نفاقهم ونشر أكاذيبهم؛ كان الشعب يزداد فقرا وصمتا وتصديقا وتسليما ورضاً، وحذا الإعلام حذو الصحافة فتوجهت كل برامجه نفس التوجه، وصمت الشعب نفس الصمت الراضي عن فساد الفاسدين ودمار البلاد وسرقة المستقبل، وكانت النهاية الطبيعية أن صُنع الطاغية، وتوج ملكاً لعدة سنوات اعتلى بعدها عرش الآلهة.. محصّناً لا يحاسبه أو يجرؤ على مساءلته أحد، ويتمتع هو وكل من حوله بهذه الحصانة والمنعة من المساءلة والحساب، ويكفي أن تعلم عزيزي أن قانون محاسبة الوزراء وضعت مسودته في أدراج مجلس الشعب منذ خمسينيات القرن الماضي، فلم يحاسب أيٌ من الوزراء منذ ذلك الحين، وكانت النتيجة المباشرة لهذه الحصانة أن الرئيس لا يُسأل عما يفعل..! والآن.. وبعد الثورة المبروكة؛ يجب أن تتضافر جهود الحكماء والكتاب والمفكرين والعاقلين والمتحدثين والإعلاميين جميعا لتضمن عدم حدوث هذه الظاهرة الإنسانية مرة أخرى، فالرئيس بشرٌ قد يصيب وقد يخطئ، وأي رئيس سيأتي إلى سدة الحكم في مصر يجب أن يعلم أن لا أحد فوق المساءلة، وأنه خاضع للحساب، وأنه مسؤول أمام الشعب عن أفعاله وأفعال كل من سيوليهم أمور الناس، ولكي لا يتكرر كابوس التوريث؛ حبذا لو كان الرئيس القادم بلا أبناء ...! واسلمي يا مصر