لنا الدنيا ومن أمسى عليها... ونبطش حين نبطش قادرينا بغاة ظالمين وما ظلمنا ... ولكنا سنبدأ ظالمينا هذه الأبيات كانت أول ما بدر إلى ذهنى صباح أمس وأنا أجلس محدقا فى التلفزيون، مترقبا ظهور الرئيس المخلوع خلف القضبان فى أشهر محاكمات القرن.. ولكن عندما دخل إلى القفص ورأيته مستلق على سرير يحتاج مساعدة أحدهم لإقتياده، حدثت نفسى : أهذا هو الرجل الذى كان يظن نفسه أقوى من خالقه ؟! أهذا هو الرجل الذى كان يعتقد أن لن يقدر عليه أحد ؟! وعندها قفزت إلى ذهنى الأية الكريمة "وتلك الأيام نداولها بين الناس لعلهم يتفكرون".. فقلت لنفسى سبحانك ألهم، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك . مشهد جلل، أيقظ الضمير الذى بداخلنا جميعا لما له من عبرة وعظة تجعلك تتفكر فى قدرة الله – عز وجل – وفى السر الذى يكمن وراء السبب من هذه المحاكمة، ويجعلك أيضا تضرب أخماسا فى أسداس متعجبا.. كيف أن هذا الرجل الذى تجبر وتبختر فى الأرض جيئة وذهابا يضطر اليوم للعب دورا سخيفا فى تمثيلية السرير الفاشلة لمجرد محاولة كسب تعاطف شعبه الطيب . لايكمن سر المحاكمة - حقيقة – فى أنها أول محاكمة لزعيم عربى يوضع داخل القفص بأمر من شعبه، فالفكرة أعمق من ذلك بكثير، وخاصة عند الأخذ فى الإعتبار أنه كان رئيسا لدولة بحجم مصر بكل ثقلها الأقليمى والدولى، وقائدا لشعب ليست من صفاته الراديكلية أو العدوانية، ولكن ميال بطبعه إلى الإستقرار والرضا بقليله و الرضا بحكامه أيضا – حى لو كانوا من الطغاة – رغم تمتعه بحضارة ضاربة جذورها إلى سبعة ألاف عاما مضت . يكمن سر المحاكمة فى أن مبارك جعل من نفسه – بعنده وكبريائه وسذاجته – أول حاكم فى التاريخ يمثل هو وأبناءه وأركان نظامه أمام محكمة أعدها له شعبه، بعد أن قام بثورة سلمية أطاحت بالرجل خلال ثمانية عشر يوما، وإستطاعت أن تكسر أسطورة الطاغية المستبد بلا رحمة.. وهنا تأتى المفارقة، التى تكمن فى عدم موافقة الثوار – رغم إمتلاكهم كل أدوات الضغط – على أن تجرى المحاكمة الأولى من نوعها طبقا لإجراءات إستثنائية، أو أمام أية هيئة أو مؤسسة، وإنما أصروا على توافر كافة أليات المحاكمة العادلة والناجزة التى تهدف بالأساس إلى الكشف عن الحقيقة ومحاسبة الفاسدين، وليس التشفى أو الإنتقام . يكمن سر المحاكمة فى علانيتها التى يرجع الفضل فى إنتزاعها إلى الشباب الذين ذهبوا إلى ميدان التحرير فى يوم 8 يوليو وأقسموا على عدم مغدارته قبل تحقيق مطالبهم.. فكانت النتيجة أن تعلم العالم أجمع بالأمس كيف تكون العدالة والديمقراطية فى ظل ثورة لم تهدأ نيرانها بعد . يكمن السر أيضا فى ما تواجهه هذه المحاكمة من ممانعة قوى داخلية وخارجية معارضة لإنعقادها من الأساس، وخاصة القوى الإقليمية منها، والتى تعلم تماما أن بدء هذه المحاكمة لا يعنى سوى بدء العد التنازلى لبقاءها فى السلطة، بل أستطيع القول بأن هذه القوى سوف تسعى بكل ما أوتت من قوة ووسائل ضغط سياسية وإقتصادية وغيرها إلى عدم إكتمال إنعقاد هذه المحاكمة على النحو الأمثل خشية العواقب التى سوف تنعكس عليها عاجلا أم أجلا . كيف إذن مازال بيننا بعض ممن يؤيدون هذا الرجل رغم ما تم الكشف عنه مؤخرا من فساد غاصت البلاد فيه حتى رأسها، وإنكشف بوضوح فى كم الإتهامات التى كالها له ممثل الإدعاء أمس مع الرأفة؟!.. كيف يتمكن أحد هؤلاء من تقبل أصلا فكرة السقوط على الأرض مغشيا عليه مع ظهور الرئيس المخلوع داخل قفص الإتهام كما رأي جميعنا بالأمس؟!.. كيف له أن يستمر فى مناصرة طاغية مستبد فاق فى تجبره عتات الديكتانورية فى العالم أمثال جوزيف ستالين و نيكولاى تشاوتشيسكو والأسد والقذافى عندما طاح فى شعبه إعتقالا وتعذيبا وتجويعا وقتلا، وحتى الدهس بالسيارات والمدرعات.. وأخيرا عندما أراد أن يبيد ملايين التحرير عن بكرة أبيهم؟! عزائى الوحيد فى الأمر هو "الديمقراطية" التى نجحنا للتو فى وضع اللبنة الأولى لأحد دعائمها الأساسية وهى "دولة القانون" التى لا فرق لديها بين كبير أو صغير، حاكم أو محكوم، متنح أو مخلوع . دولة أخذت تراودنا جميعا فى أحلامنا منذ زمن بعيد، حتى إعتقدنا أن الشمس قد أفلت من دون بزوغ، وأننا نسعى إلى الكمال أو إلى مدينة أفلاطون الفاضلة . ولكن فى نهاية المطاف نجحنا فى إحضار الديكتاتور إلى قفص العدالة بعد الإطاحة به وبنظامه، والأهم من ذلك بعد الإطاحة بالخنوع والذل والطأطأة التى فرضها علينا طوال ثلاثين عاما، وبعد التخلص من التبعية والخوف والقناعة البالية التى أدت بنا إلى الرضوخ والرضا بما كنا عليه.. فجاءت منشتات العالم وعناوينه مشرفة أخيرا بأن "حقا فعلها المصريون" !!