في شارع ضيق.. متهالك.. متعرج.. أنهكته السنين بحي باكوس الشعبي بالإسكندرية يقبع بيت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي ولد وترعرع وعاش سنوات طفولته الأولي بين جنباته، البيت مكون من دور واحد أشبه بالفيلا، يحيطه سياج حديدي بدائي أقيم حول البيت منذ نحو العام إنقاذا لبيت الزعيم الراحل الذي كان قد تحول بفعل الجهود الشاكرة إلي مأوي للمدمنين ومتعاطي السرنجات ومكان مناسب لتفريغ قمامة أهالي المنطقة. وعلي هذا تدخلت وزارة الثقافة منذ نحو عامين - أي بعد سنوات قليلة من وفاة الرئيس جمال عبد الناصر -الذي توفي منذ 40 عاماً - وأعلنت عن نيتها تحويل بيت عبد الناصر إلي مكتبة، وحاولت أن تبدو كمن فعل ما عليه فأغلقت البيت في وجه أطفال الشوارع، وأحاطته بسور، وعلقت عليه لافتة كتب عليها مشروع «مكتبة جمال عبد الناصر»، ثم تركت البيت لمصيره المعلق دون أن يشهد خطوة واحدة في سبيل تحويله إلي متحف أو مكتبة أو حتي ترميمه، فباب البيت متهالكاً، وشبابيكه العتيقة تكاد تنهار من فرط هشاشتها. أما الشارع الذي يوجد به البيت فيكاد يكون الوحيد بين الشوارع المحيطة الذي لم يتم رصفه، حاملاً علي ناصيته لافتة كتب عليها اسم الشارع والذي لا يحمل للمصادفة السعيدة اسم الزعيم الراحل، وإنما يحمل اسم «شارع قنواتي» دون أن نعرف علي وجه الدقة من هذا القنواتي الذي فضلته الدولة علي الرئيس الراحل، ولم نجد مبرراً منطقياً واحداً يحول دون إطلاق اسم عبد الناصر علي الشارع الذي ولد به، في الوقت الذي طالبت فيه الراقصة هياتم بحقها في وضع اسم سيادتها علي الشارع الذي ولدت به بالإسكندرية، بينما تم إطلاق اسم رجل الأعمال السكندري محمد الغتوري - رئيس جمعية رجال أعمال الإسكندرية - علي الشارع الذي يقطن به بحي سموحة. وعندما رآنا سكان الشارع نتجول حول البيت ونتأمله في أسي، سألونا في تهكم لم يحاولوا إخفاءه: «وانتوا بقي سياح ولا صحفيين؟»، وقد علمنا منهم أن بيت عبد الناصر بحالته التي تدعونا للفخر بين الأمم تحول إلي مزار سياحي، حيث يزوره بانتظام وفود سياحية تلتقط الصور إلي جواره ليقيموا الدراسات في أوطانهم حول الاهتمام المصري الصميم، بزعمائها الراحلين وبذلها قصاري جهدها - أي مصر - في الحفاظ علي تراثهم بصورة لا تقل مطلقا عن الاهتمام الأمريكي مثلا بشعرة رأس تركتها مارلين مونرو. وعندما أخبرنا الأهالي أننا لسنا بسياح ولكننا صحفيين فالحق يقال إن موقفهم منا قد تغير تماما حيث زادت سخريتهم قائلين لنا: «وهي الدولة بقي مش عارفة إن هنا فيه بيت عبد الناصر وإنه عبارة عن خرابة ومستنياكم تيجوا تقولوها تهتم بيه شوية». وعبثا حاولنا إقناعهم أن الحكومة شايفة شغلها كويس، وأن من عمق تفانيها في العمل استغرقت نحو 40 عاماً لوضع الدراسات لتحويل البيت إلي متحف، فزجرنا آخر «يعني انتو هيبقي قلبكوا ع البيت أكتر من ولاد عبد الناصر إللي فلوس أصغر واحد فيهم تشتري حي باكوس بالكامل»، واقترح ثالث تحويل البيت إلي «مصلي للسيدات» ليكون ملحقاً بمسجد أحمد بن حنبل المجاور للبيت، واقترح رابع «إننا نروح نلعب بعيد». أما موظف وزارة الثقافة الذي تواجد بالمصادفة علي باب المنزل فقد هددنا إذا قمنا بتصوير البيت حفاظا علي سمعة وزارته التي فضحها تقرير صادر عن لجنة الثقافة بالمجلس المحلي وقتئذ عن حال البيت برئاسة ياسر سيف. وأما محافظة الإسكندرية فإننا بصدد إرسال برقية لها لنخبرها بأن بيت جمال عبد الناصر الذي ولد به تم اكتشافه فجأة في حي باكوس في أحد الشوارع الفقيرة، وأن الشارع لا يحمل اسمه وغير ممهد وغير مرصوف ولا يوجد به إنارة ويبيع الشباب المخدرات علي ناصيته، فلربما إذا علمت لقلبت الدنيا وسحبت بلدوزراتها في الصباح الباكر لإحداث نقلة حضارية بالشارع تليق بالزعيم الراحل.