اعتدتُ في السنوات الأخيرة أن أذهب فى رحلات صيفية جماعية مع كبار السن من صديقات والدتي، واللاتي ينتمين جميعهن إلى نادٍ إجتماعي واحد يدعى نادي الوفاء، وهو الصديق الوفي حقاً لهن بعد خروجهن على المعاش، والملاذ الدنيوي الوحيد الذي يستأنسون فيه ببعضهم البعض، بعد أن أتى الشيب على سواد شعرهن، بلا تمييز أو تقصير.. بالطبع في هذه الرحلة الصيفية المميزة أكون أنا الأصغر، رغم أن الشيب أتاني مبكراً عن موعده المعتاد، من كثرة ما حملته رأسي من هموم، تخصني وتخص غيري، وكأن خصال شعري فرسان تحارب من أجل كسب يوم جديد في الحياة.. ولأن الحياة معتركها صعب، فهي التي تربح دائماً، وخصال شعري تفقد روحها، فتبيض.. ماعلينا.. المهم أنني أحب أن أرى كيف إن كتب الله لي عمراً سأُعامَل وكيف سأَتعامل، فالكبار لهم طباع خاصة، وبخاصة مع التقدم في العمر، فما بالك بها عند أرزل العمر.. حتى أن لهم ميكانيزم حركة يميزهم، ويكاد يكون واحداً.. فبُطء المشى، والاتكاء على أي شئ صلب للوصول إلى المرتفع (اللي بيقولوا عليه الرصيف!)، والاعتماد على مساعدة الغير في صعود وهبوط السُلم، كلها سمات أساسية أولية، تعبر عن فتح بوابة كِبَر السن والعبور إليها.. من داخلي أشعر أنني يدٌ أرسلها الله للمساعدة في مثل هذه الظروف، وأترك نفسي عوناً للجميع.. ألم يكونوا في شبابهم عوناً لآخرين؟ بصراحة ومن كل قلبي أكون في قمة سعادتي وأنا معهم، يسمحون لي باختراق عالمهم الهادئ، فأستجم، وأهدأ، وأستمع لهمهمات جانبية شيقة، ودندنات بكلمات وألحان قديمة: حليم، فريد، أم كلثوم، وغيرهم ممن يطربون الآذان، وينظفونها من عبث بعض الجديد بها.. الكل سعيد، وأنا مثلهم وأكثر.. علمتني أمي أن أكون مهذبة السلوك أمام الكبار، فما بالك بتهذيب الروح معهم.. هؤلاء الكبار هم الأمهات والجدات اللاتي يستعِدْن فيَّ شبابهن، وكم تأخذني النشوة كلما رأيت تلك النظرة الحانية إليّ، وكم تدور رأسي في دوامة ذكريات لم ولن أعيشها.. أراها في لمعة عين كل سيدة منهن، تراني فترى نفسها في، وتسرح وهي تبتسم لي، ونفيق معاً على كلمة مدح في حقي، أو حق أمي.. هاهي تراني مثلها.. فهي المرحة، هي النشيطة، هي الهادئة، هي المبتسمة، هي المتعاونة، هي الشقية، هي السريعة، هي المُحِبة، هي وهي وهي... فكلهن أنا وإن لم أكن أنا، المهم أنني مرآة تعكس لهن ما كن عليه، وتدنو منهن الذكريات، حتي تكاد تلمسني.. يا الله! كنا صغاراً نتعلم المشي ويمسك الكبار بأيدينا حتي لا نقع أرضاً، وتمر السنون، ونكبر، ويأتي دورنا لنمسك بأيديهم، فيمشون بنفس خُطى الأطفال، واثقين في اليد التي تحتضن أيديهم.. إن كان الله حرمك من الأم، ستجد ألف أم.. وإن كان الله حرمك من الأب، فستجد ألف أب.. فقط اطرق أبوابهم المغلقة، وستجد خلف كل باب قلب من القلوب الرحيمة، التي قد يكون الزمن جعلها وحيدة، وليس لها من أنيس ولا جليس، سوى صحبة الله عز وجل، ومن في الدنيا أفضل ولا أغنى من جلال صحبته.. كم من الآباء والأمهات عاشوا في صخب بيوتهم، الممتلئة بالأبناء والأقارب والأصدقاء والجيران.. واليوم لا يجدون سوى طرقة باب (كل فين وفين) من الأبناء المَلهيين في الدنيا، ساحبين وراءهم الأحفاد والزوجات.. لو كنت من راكبي الأتوبيس أو الترام أو أي مواصلة، هل ستُفسح الطريق لشخص كبير السن وتعطيه دورك رأفة به، وبمفاصله الهشة؟ هل ستتركين مكانِك لسيدة عجوز يا دوب قادرة تتسند، كي تركب الترام أو المترو، وتقضى إنتِ باقي السكة واقفة.. في وسط هذا الزخم الذي نعيشه، هل علمنا أولادنا أن يقفوا ويتركوا مجالسهم لكبار السن؟ أن يكلموهم بعطف وأدب؟ أن يتنازلوا لهم عن أدوارهم في الطوابير؟ مش حقولك طوابير العيش ولاّ الأنابيب، لأنه في الأساس تنعدم فيها الإنسانية بأبسط صورها.. فالكبار يصيحون في وجه الصغار، والصغار يزغدون الكبار للحصول على أقرب مكان من الهدف.. تتعدد المواقف والسلوك واحدٌ.. مد يدك للكبير، وخذ بيده.. فضله على نفسك.. عشان لما تكبر تجد من يؤثرك على نفسه.. مش برضه الأيام دول؟ ويا عيني على عيالنا.. ماذا علمناهم؟ يروحوا النادي؟ يمسكوا موبايل؟ لما يجوعوا ياكلوا تيك أواي؟ يلعبوا على اللاب توب؟ ألحقناهم بالمدارس الأجنبية؟ جردناهم من طفولتهم بالأغاني الهابطة والأفلام الساقطة، التي كثيراً ما تُلهي الأم بها أبناءها حتى تتخلص من زنهم وقرفهم؟ طيب هل فكرنا أن نقول لهم تقبل الآخر، سواء كان جميلاً أو قبيحاً؟ أبيض أو أسود؟ غنياً أو فقيراً؟ زبالاً أو مديراً؟ يدين بدينك أو يدين يغيره؟ هل زرعنا في قلوبهم حب العواجيز والعجزة والمرضي والمشوهين؟ صدقوني حتى لا نغتر بالدنيا، يجب أن نزور المسنين والمرضي والأيتام والمعاقين، ونأخذ أطفالنا في أيدينا.. خليهم يحسوا باللي مش حاسينه ولا شايفينه.. عفاهم الله من كل مكروه.. فاكرين الكراسات بتاعت مدارسنا زمان، كان مكتوب عليها إيه من ورا؟ أنا مش حقول، حاسيب كل واحد فيكم يكتب اللي يفتكره واللى بيعمله واللي ناوي يعلمه لابنه عشان يعمله.. ومش حقولك اوعدني.. وإنما عاهد نفسك بعد أن تقرأ كلامي، الذي أنفقت جزءاً من وقتك في قراءته أن تنفق جزءاً آخر من وقتك، ترفع فيه سماعة التليفون، وتسأل علي والدك أو والدتك، أو خالك أو خالتك، أو عمتك الكبيرة أو جارتك المسنة.. فاجئهم بزيارة غر متوقعة، بعيدة عن جدول الزيارة الروتيني المعتاد، وصدقني ستكون أحلى مفاجأة حصلت فجأة.. وحدثني بعدها عن إحساسك.. فقد يكون هذا المقال هو الأكثر شوقاً لتعليقاتكم ومعرفة ردود أفعالكم.. النهارده همه.. بكره إحنا.. بعده عيالنا.. _____________________________________ وقفة واحدة كبرت أنا ولا إيه؟ شيب ده اللي سارح ولّا ضوء أو انعكاس .. مش برضه لازم يتصِبغ؟ مش برضه لازم يتلِبِخ ف لون جديد؟ طب ان صبغته بدري بدري.. وان سامحته وقمت أجري.. ع اللي شايفه.. ومش بروح له عشان بخاااف.. بس عندك.. ليه أخاف؟ إذا كان شعري إبيَض ما خاف .. وصبح لونه خَلف خِلاف.. أضعف أنا من رُفع الشعرة....