أصبح هذا السؤال يلح عليّ كثيرا هذه الأيام، حتى بدأتُ أفكر: هل هو سؤال حقيقي أم أنه نوع من هوسي كشاعر بالتلاعب بالألفاظ والبحث عن موسيقاها؟ الحقيقة أنني كلما تأملتُ نمط العلاقات الجديدة في المجتمع المصري بعد الثورة، شعرتُ أن هذا السؤال ليس ترفا لفظيا ولا هوسا شعريا، بل سؤالا ضروريا لأنه أصبح يكشف -بتقديري- عن شريحتين متباينتين في نسيج المجتمع المصري: شريحة عريضة من الشباب الثائر الذين نزلوا إلى الشوارع وواجهوا آلة القمع البوليسية بصدور عارية وقلوب تفيض سلاما وحبا لمصر، وعلى قمة هذه الشريحة أبطالنا الشهداء والمصابون الذين دفعوا كشف حساب هذه الثورة من دمائهم النبيلة. أما الشريحة الأخرى فهم من تكالبوا على تورتة الثورة؛ بمعنى أن أدبيات السياسة توضح لنا أن اهتزاز أو سقوط أي منظومة حكم يخلق فراغا في شبكة مواقع السلطة، هذا الفراغ أو هذه المواقع الخالية في منظومة السلطة تحتاج بطبيعتها إلى أن تمتلئ بأفراد صاعدين جدد ينتمون للثورة، وذلك في حالة اهتزاز منظومة السلطة القائمة، أما إذا سقطت المنظومة تماما فيتم إنشاء منظومة جديدة بشبكة مواقع جديدة أيضا. من الواضح بالطبع أن منظومة حكم مبارك لم تسقط بل هزّتْها الثورة هزة عنيفة، فقامت بمسرحية محكمة لانهيارها، ونحن صدّقنا المسرحية وصفّقنا وهلّلنا وعدنا لبيوتنا بعد تنحي مبارك الذي لم ينخلع في الحقيقة، بل خلع رداء الرئيس وألبسه للمجلس العسكري ومشيره، وفضّل هو أن يقضي فترة تقاعد هادئة في شرم الشيخ بعيدا عن وجع دماغ المصريين "الغوغاء" كما صرّح علاء وجمال لرجل أعمال عُماني. أريد الآن أن ألخّص الموقف ببساطة ووضوح لأنني بدأت أخاف وأحزن من أعماقي على ثورتنا اليتيمة التي انصرفنا عنها وليدةً على الرمال، وتركناها بين مخالب الذئاب الذين رأوها تورتة شهية مجانية. هؤلاء بالطبع سينقضّون عليها مقتنصين المواقع الجديدة التي أصبحتْ خالية في منظومة السلطة بعد اهتزازها وسقوط بعض رموزها وقياداتها. كنت حتى وقت قريب أظن أن هؤلاء الذئاب هم المتحوّلون الذين اكتشفوا أن "غُددهم الثورية" نشطت فجأة، وملأتهم نشاطا وحيوية. ولا أرى أنني بحاجة لسرد أمثلتهم لأنك يا عزيزي القارئ تعرف كثيرين منهم دون شك، فهؤلاء تفضحهم غددهم بإفرازاتها الهائجة المسعورة. وعلى رأي عمنا جيفارا: يفجر الثورة مجنون، ويخوضها بطل، ويجني ثمارها انتهازي. لكن المصاب الأليم يتعلّق بإخواني في الثورة الذين سارعوا إلى التورتة لينالوا نصيبهم من الأضواء والزعامة والمناصب الكبرى ومقاعد مجلسي الشعب والشورى و....، ساعدهم على ذلك الآثار المَرَضية التي تركتْها منظومة الحكم الفاسد من الكبت والحرمان المزمن من الحرية، وكذلك المخاوف العقيمة من الآخر والبحث عن عدو مفترض لمحاربته، وكنت في البداية أعتقد أن بعض القيادات الهرمة للإخوان (وليس شبابهم) هم أول ضحايا الحرية، وكنت أتصور أن صبحي صالح بأفلامه المضحكة عن زواج الأخ الفلوطة من نوع جديد من الزوجات، لأننا كنا نعرف الزواج من المسلمة أو من الكِتابِيّة دون أن نسمع بأن المسلمة نوعان: مسلمة إخوانية وغير إخوانية (هي الأدنى)... كنت أعتبره مثالا صارخا للبحث عن دور بشكل يدعو للرثاء. أنا أعترف باختلافي جذريا مع الإخوان، لكنني الآن أكتشف عددا واضحا من الليبراليين وأنصار الدولة المدنية الديمقراطية الذين بدأوا يَعوون فوق تورتة الثورة، متناسين تماما أننا نزلنا يوم 25 يناير لنحرر أنفسنا أولا من أنانيتنا، ولنضع أرواحنا على أكفنا حتى ننقذ مصر من جلاديها. مثلا أشعر بالتقزز ممن يزالون يُوَلوِلون على "الدستور أولا". أنا كنت أتمنى ذلك لكن الشعب المصري اختار وانتهى الأمر. هذا الشعب ليس غبيا ونحن لسنا أذكياء لنفرض عليه وصايتنا ونترك المصابين منسيين على أسِرَّة المستشفيات يواجهون مصيرهم ونحن ننهش تورتة 25 يناير بلا رحمة! ثم كان يوم جمعة القصاص 1 يوليو يوما قاسيا، فحين قررتُ اللحاق بالمظاهرة، اتصلت بأحد أصدقائي لأعرف موقع المظاهرة، فإذا به يقول إنها لم تغادر ميدان القائد إبراهيم، لأن كثيرا من المتظاهرين انصرفوا متألمين من مشاهد الاشتباكات بين المتظاهرين أنفسهم (ليبراليين وإخوانا) بسبب هاجس مضحك فعلا هو: من الذي يقود المظاهرة؟ الذي أوجعني حقا أننا سميناها جمعة القصاص للشهداء فإذا بنا نقتل الشهداء قتلة أخرى بتفرقنا وعراكنا على "عجلة القيادة". ثم رأيت مقاطع فيديو على اليوتيوب لبعض المتظاهرين يتهجّمون على الإخوان ويكررون أن الدستور أولا ثم أولا ثم أولا... اللهم طولك يا روح. في شهر يوليو يتحدث مثقفو النخبة عن الدستور الذي استفتى عليه الشعب منذ منتصف مارس! يؤسفني أن أقسو على نفسي لأنني انجرفتُ أحيانا لهذه الانفعالات (الدستورية) البائسة، كما يؤسفني أن أقسو على إخواني الذين عرّضوا أنفسهم للخطر في مظاهرات الثورة، فأحببتُهم في الإنسانية والوطن، وسأحبهم فيه؛ ولذا سأنقد نفسي كما سأنقدهم بمحبة كاملة إذا نسوا أن ثورتنا تحتاج كل ذرة نشاط وعزيمة نملكها. أخشى أن يمر الزمن ويأتي يوم نتذكر فيه حزن تابعي جليل أغضبه أن المسلمين الأوائل قاوموا أحلك وأقسى الظروف من خوف وقتل وحصار، ثم مضى الزمن وترفّه المسلمون، فانغمسوا في الملذات وتصارعوا. يُهيّأُ لي أن مصر تنتظر جمعة 8 يوليو بترقب، وأنها ترانا وترجونا: - اتظاهروا مع بعض بشويش يا ولاد... كلكم مع بعض، كلكم إيد واحده.. اوعوا تتخانقوا تاني عشان خاطري... - حاضر يا أمي.