لم يكن أحد منشغلاً بالمصاريف أو الديون أو شئون الدنيا أو حساب الآخرة حتي أصحاب الأمراض المزمنة تجاهلوا آلامهم وتمكنوا من تأجيلها إلي ما بعد المباراة صراع الكرة في مبارتنا مع الجزائر كان محسومآ للفراعنة أطلق عليها المؤرخون والجغرافيون والشعراء والساسة أسماء كثيرة، ولكنها تظل تلك العزيزة الغالية التي تعشقها رغم أنفك وتلعن سنسفيل أهلها بينما تتمني أن يقطع الله لسانك قبل أن يستجيب لك ويمسها بأي سوء. لن ينفعك العقل وأنت تتعامل مع هذ البلد، ولن تتمكن من تطبيق نظريات العلم والمنطق علي أحواله معك أو أحوالك معه، ولن تنجح في قراءتها أو التنبؤ بالقادم من شئونه، ولن تستطيع انتزاع حبه من قلبك ووجدانك مهما كانت كمية الصفعات التي ينالها قفاك من أيدي أهله وحكامه، والأغرب من كل هذا أنك قد تضبط نفسك أحياناً متلبساً بالتعاطف مع أحد أو بعض السادة الطواغيت المصريين حال إصابتهم بضائقة قدرية أو انحيازهم الشفوي للناس في قضية سياسية أو اجتماعية أو رياضية. قبل بدء منافسات البطولة الأفريقية الكروية الحالية كان العقل والمنطق في صف خروج المنتخب المصري من الأدوار الأولي، لم يكن بوسع أي شخص عاقل أن يتمني النجاح لاتحاد رياضي اجتاز الانتخابات بالرشاوي وإفساد الذمم، ولم تكن صورة الفريق القومي المصري مشرفة أو مقبولة وهو يتعاطي المكافآت والهدايا في الدول العربية الشقيقة رغم أن لاعبيه ومسئوليه ومدربيه لا يحتاجون إلي مثل هذه النفحات المالية علي حساب شعب فقير كالسودان أو دولة استثمارية كالإمارات، ولم تكن اختيارات حسن شحاتة وخططه تتفق مع كثير من الحسابات التي يعرفها ويراها العامة والخبراء، كما أن خلط الدين بالرياضة ووصف الفريق المصري بمنتخب الساجدين، أضفي هو الآخر مسحة عنصرية غير مقبولة تتنافي مع العقل والمنطق والدين نفسه، ويكفي أنها تستبعد ملايين المصريين غير المسلمين من دائرة الانتماء إلي ذلك الفريق أو انتمائه إليهم، هذا إلي جانب الأحداث المأساوية بالغة الغباء والحماقة التي واكبت مباراتي المنتخب المصري ضد نظيره الجزائري في التصفيات المؤهلة لكأس العالم، وأيضاً الإفراط الشديد في الأغنيات الوطنية شديدة الضحالة والبؤس علي الأقل بالنسبة للأجيال التي مازالت تتذكر أغاني العصر الذهبي لثورة يوليو أو حتي الأغاني الوطنية التي ظهرت عقب نكسة 67 وأثناء حرب الاستنزاف، كل هذه العوامل، ومعها الاستخدام الحكومي الاستراتيجي للانتصارات الكروية في المزيد من التعتيم علي وعي الناس ومصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كانت كفيلة بتوجيه عقول قطاع من المصريين في اتجاه معاكس لأمنيات الفوز والبطولة التي يفترض أن يحملها كل المواطنين لفريق يمثلهم في بطولة رياضية قارية مرموقة، وأسهمت العروض الهزيلة التي قدمها المنتخب في الدور الأول ودور الثمانية في تكريس وتدعيم حسابات العقل والمنطق التي هي في غير صالح الفريق المذكور. ظلت الأمور علي هذه الحال حتي مساء أمس الأول الخميس ولكنها صارت شيئاً آخر مع نهاية الشوط الأول من مباراة مصر والجزائر، كان إصرار الفريق المصري علي تحقيق نتيجة إيجابية أقوي من كل حسابات العقلاء والحكماء والمحايدين والقوميين، وكان لابد أن ننسي كل النظريات ونتناسي كل السوابق ونتجاهل كل اللواحق ونخرج من عموم وخصوص أحوالنا ويضع كل منا عقله تحت قدميه ويشارك الناس فرحة عارمة بالفوز العريض والأداء الجيد الذي قدمه الفريق المصري أمام فريق الجزائر، ومثلما لا يمكنك استخدام عقلك في كراهية البلد رغم كل ما تراه منه وما تعرفه عنه، فإنك أيضاً لا تستطيع استخدام عقلك وأنت تشاهد فريقاً مصرياً يتلاعب بمنافسه حتي لو كان فريق الجزائر الشقيقة التي تحبها هي الأخري وتتمني لها ما تتمناه لبلدك ولأسرتك ولنفسك، ولكنك في كرة القدم لا تستطيع تشجيع فريقين في مباراة واحدة، ولابد هنا أن تستغني عن عقلك ومشاعرك النبيلة الموضوعية العاقلة وتتحول إلي رقم في صفوف الدهماء الذين تشتمهم كل يوم وتستنكر سلوكهم وتتهمهم بأنهم سبب تخلف مصر وجمود نظامها السياسي وتأبيدة كل من يجلس علي عرشها. لا يعنينا الآن ما سوف يحدث في المباراة النهائية أمام غانا، ولم يفكر أحدنا ليلة أمس الأول في موقف الدكتور البرادعي من الترشيح للرئاسة، ولم يتحدث أحدنا أثناء المباراة أو بعدها عن فضائح التزوير والتعذيب ومسخرة الانتخابات البرلمانية القادمة، لم ينظر أحدنا حوله أثناء مشاهدة مباراة مصر والجزائر بحثاً عن شخص من نجوم الفساد في المجتمع المصري أو شرطي من محترفي التعذيب والتلفيق والتزوير، لم يكن أحدنا منشغلاً بالمصاريف أو الديون أو الضرائب أو المظالم أو شئون الدنيا أو حساب الآخرة، حتي إخواننا أصحاب الأمراض المزمنة أو المؤقتة تجاهلوا آلامهم وتمكنوا من تأجيلها إلي ما بعد المباراة. لو تمكن حسن شحاتة من مواصلة انتصاراته والحصول علي كأس الأمم الأفريقية للمرة الثالثة علي التوالي، فإنه سوف يتحول لدي الكثيرين من مدرب إلي واحد من أولياء الله الصالحين، ولن يكون غريباً أن يقام له ضريح ومولد سنوي في كفر الدوار، حتي وهو بعد حي يرزق، ولن يكون غريباً أن نشهد مقاماً آخر في الشاطبي وحوش عيسي للعارف بالله سيدي محمد ناجي جدو، خاصة لو أحرز أهدافاً جديدة في المباراة النهائية! ويبدو أن مصر بالفعل ذات خصوصية بين سائر الأمم والدول والدويلات، وأن التعامل معها ومع أحوالها بالعقل والمنطق يشبه محاولة إقناع إسرائيل الشقيقة بالانسحاب الكامل من فلسطين ونقل كل الشعب اليهودي إلي وطن قومي جديد في أمريكا أو الصين أو شبه جزيرة سيبريا!!