منذ انتصاف شهر مارس، وبعد حوالي شهر من الإطاحة بالرئيس المخلوع، بدأ الصراع السياسي يظهر بين القوى المحافظة من ناحية، والقوى الليبرالية واليسارية من ناحية أخرى. نبحنا جميعاً أصواتنا قبل أن ندلي بها في صندوق الإنتخابات. قلنا (في التيار الذي أنتمي إليه) أن هذه التعديلات معيبة، ولا تعبر عن إرادة الثورة ولا تحقق مطالبها. وحذرنا من مخاطر التصويت بنعم، وأن لا علاقة للدين أو الإستقرار بهذا الخيار. كما حاولنا توضيح سيناريوهات "لا" حتى نؤكد أن هذا الخيار لا يأخذنا لمرحلة اللا وعي واللا إدراك. نشرنا (كتيار معارض للتعديلات) مقالات في الصحف، صورنا إعلانات تليفزيونية تحث على التصويت بلا، ارتدينا قمصاناً عليها شعارات مثل "دستور جديد" أو "ما بني على باطل فهو باطل"...ووضعنا صور "لا" على صفحات المواقع الإجتماعية والتي اكتسحناها بشدة. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ظهرت نتيجة الإستفتاء، والذي كان نزيهاً من الناحية القانونية، كنت أتوقع –والكثيرين معي- هذه النتيجة لكن لم يكن يملك أحداً تصوراً حقيقياً حول النسبة. غاية القول أن الأغلبية الساحقة –أكثر من 77%- اختارت مساراً مختلفاً عما اخترته أنا شخصياً. أصيب العديد منا بالإحباط، كيف للأغلبية أن تختار هذا الخيار "الخاطئ"، كيف لا يدركون أن البرلمانات لا تصيغ الدساتير؟ ماذا يمكننا أن نفعل الآن؟ وهذا السؤال شق الصف مرة أخرى، ولكن بين من صوتوا بلا هذه المرة. رأي البعض أن من واجبهم أن يكملوا نفس الطريق، وأن يدافعوا عن وجهة نظرهم ورؤيتهم، حيث أنهم "يعلمون ما لا يعلمه الأغلبية" وأنهم لديهم "رؤية أفضل لمصلحة الوطن". بينما ذهب البعض الآخر -وأنا منهم -إلى رأي مغاير، ألا وهو أن هذا أول اختبار ديمقراطي حقيقي تمر به البلاد منذ 1952، وأن قواعد اللعبة السياسية والديمقراطية تحتم علي –كرجل منخرط في اللعبة السياسية- احترام قواعد هذه اللعبة. فلو صوتت الأغلبية بلا، لم أكن لأرضى لأنصار نعم أن يطلبوا إعادة الكرة مرة أخرى. المطالبة بإعادة الإستفتاء مرة أخرى، أو حملة جمع ال 15 مليون توقيع (بعيداً عن أنها غير واقعية) فيها تحايل على نتيجة الإستفتاء وانقلاب على الشرعية التي فرضتها الأغلبية. وكون أن من كنت اختلف معهم قبل الإستفتاء الآن يؤيدون نفس الرأي لا يجعلني حليفاً له، ولا يعني أنني تخليت عن مبادئي، فلو عادت بنا عقارب الساعة إلى يوم 19 مارس لاخترت نفس الرأي وقمت بالتصويت ب"لا". فماذا لو جرت انتخابات برلمانية حرة ونزيهة وفاز بها التيار الديني (أو المحافظ لدقة التعبير) أو الشيوعيون أو الناصريون مثلاً، هل أطالب بإعادة الإنتخابات لأني أرى أن رؤيتي هي الصحيحة؟ أو لأن الشعب اختارهم جهلاً منه؟ هل أطالب بالتفريق بين المواطن المتعلم (أو الواع) والمواطن الأمي (أو غير الواع)؟ هل أطالب باحتساب صوتي بصوتين، واحتساب صوت "البسطاء" بنصف صوت؟ قواعد اللعبة تحتم علينا –جميعاً- احترام رأي الأغلبية وإن كانت –وهي الحال هنا- مختلفة مع إرادتنا. بل وعلينا التعلم من الدروس المستفادة وهي أن هناك فجوة بين السياسيين عموماً وبين أغلبية المواطنين، وأننا لا يجب أن نعتمد على مؤشرات السياسيين أو الطبقى الوسطى أو المواقع الإجتماعية، حيث أنها عينة غير عشوائية ولا تدل عن الواقع وفقاً لقواعد الإحصاء ومناهج البحث العلمي. أن لا أرى أي منطق في أن يكتب البرلمان الدستور، فهو سلطة مثل باقي السلطات، وسيمنح نفسه (في أغلب الظن) امتيازات على حساب السلطتين الأخرتين، كما أن البرلمان يعتمد على منطق الأغلبية والأقلية، فيمكن أن يسن تشريعات نغيرها نحن في مجلس آخر بعد بضع سنوات، على عكس منطق الدساتير التي تكتب وفقاً لوفاق قومي بين جميع القوى والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، فالدستور دائم. ولكن هذا ما ارتضاه أغلب من ذهب للتصويت. فالمسار كان واضحاً: استفتاء، ثم في حالة الموافقة يتبعه برلمان، فجمعية تأسيسية، فدستور، فانتخابات رئاسة. والحديث على أن المجلس العسكري "التف" هو الآخر على رأي الأغلبية من خلال الإعلان الدستوري لا أساس له من الصحة. فالمسار هو المسار بغض النظر عن الإعلان. فإذا كان لا بد من الإعتراض، فلا يجب أن يكون هذا الإعتراض على المسار (الذي اختلفت معه)، وأنا أرفض بشدة الإستهتار برأي وصوت المواطنين من خلال الدعوة لعمل استفتاء جديد، أو الإصرار على وضع الدستور أولاً. فللجميع مطلق الحرية في التعبير عن آرائهم، ولكن لا يجب أن تتعارض أي حرية مع الديمقراطية. ليس من الحرية أن تعتصم أمام البرلمان في حال فوز المنافسين بالأغلبية طالما أن هذه هي رغبة أغلبية المواطنات والمواطنين في ظل عملية انتخابية جرت بشكل سليم قانونياً، فلا يوجد حكم قضائي واحد يحكم ببطلان الإستفتاء أو عدم دستورية العملية ككل، والقضاء هو الفيصل في مثل هذه الأحوال. نعم كنت (ولا زلت) أتمنى دستوراً جديداً، ولكني أدافع الآن عن العملية الديمقراطية حتى تترسخ ولا تنقلب عليّ في حالة "انتصار" رأيي في مرة أخرى. ولكني، وهذا أيضاً رأي الحزب الذي أتشرف بعضويته، أرى صورة مختلفة، وأيضاً يختلف معنا البعض فيها. نرى أن الأغلبية لم تصوت على موعد انتخاب معين، ولا على مبادئ معينة تدرج في الدستور. لذا رأينا أنه من الحكمة أن نطالب ونسعى في طريق تأجيل الإنتخابات تأجيلاً محدوداً، وليس كي "نجهز" للمعركة الإنتخابية، فوالله لا بضعة أشهر ولا عامين يكفوا لبناء قواعد شعبية، وإنما نرى أن في التأجيل مصلحة للوطن حيث أن الوضع الأمني غير مستقر، ونحن كلنا شاهدنا العنف الإنتخابي في مصر في ظل الوجود الأمني المكثف، فما بالك في ظل الغياب الأمني؟ ومن ناحية أخرى فالوضع الإقتصادي لم يستقر أيضاً، فلا تم تطبيق الحد الأدنى للأجور، ولا عادت "عجلة الإنتاج" –الشهيرة- للدوران بالشكل اللاقئ. ومن واقع الممارسة والخبرات الدولية، ففي ظل الإنفلات الأمني ستحدث "مجازر انتخابية"، وفي ظل تدهور الأوضاع الإقتصادية سيكون أمام الناخب محدود الدخل ثلاث خيارات لا رابع لهم: إما العزوف عن المشاركة، أو اللجوء إلى بيع الأصوات، أو اختيار المرشح (أو القائمة) الأكثر راديكالياً، سواء أقصى اليمين أو أقصى اليسار. نهاية، من ارتضى بدخول اللعبة فليقبل نتائجها، ولو قاطعت كل القوى السياسية هذا الاستفتاء لاختلف الأمر الآن. ولكن من العيب الدخول في لعبة وقبول نتائجها شريطة الفوز.