ليس ما بعد الثورة كما قبلها . ولا ينبغى أن يكون . ما زالت أغلب الأسماء التى دمرت الصحافة القومية تواصل تدميرها لها باستمرار الكتابة ( قلم وصورة ) عبر صفحاتها بعد الثورة وبنفس المساحات " المتضخمة " التى تبدو أكثر فداحة الآن بعد انصراف القراء عن تلك الصحف التى تلوثت بفعل رئاسة أغلب تلك الأقلام لتحريرها ولمجلس إدارتها فيما قبل الثورة . لا أنادى بقصف قلم المختلف ولا بتجميد الأصوات رغم ما مارسته قيادات الصحف القومية ضد الكثير من المعارضين بداخلها من شرفاء المهنة الذين ظُلِموا مرتين : مرة حين تخوف منهم القارئ أو استراب فيهم وهو ما كنا نتعرض له كلما نزلنا للتحرير وتسألنا لجان التنظيم بعد رؤية بطاقاتنا " هل حتقولوا الحق ؟" , أو يقولون مهددين بينما نحمل المشمع والبطاطين " لسه مانعين تلاته يدخلوا من الجريدة دى دلوقت " , ومرة ثانية حين منعنا رؤساؤنا فى تلك الصحف من الكتابة وقاموا بفصلنا أو فضلوا علينا عناصر من الحزب الوطنى لنكف عن الكتابة . إذن الصحفى الشريف فى الصحف القومية قبل الثورة وأثناءها وبعدها كان عليه أن يدفع ضريبة انتمائه " المكانى " الوظيفى لها . هذا الظلم المضاعف لم يطل إلا الشرفاء , لأن المتحولين موجودون فى كل عصر , شتموا الثورة بكل عنف وقبح لما ظنوا أنها لن تنجح بينما كان شرفاء المهنة فى التحرير , ثم انشغلوا بالتهليل لها حين لاحت بوادر سقوط الصنم . أذكر أحد تلك الأقلام لرئيس تحرير كان الأقرب إلى قلب رئيس الدولة وقتها . كان الرئيس المرفوض منا يقلده الأوسمة فى عيد الإعلاميين ويتمنى كما قيل وتداولنا ذات مرة , أن يكتب الجميع مثله. والحاصل أن رئيس التحرير ذاك كان لا يعرف سوى أن يكتب كتابة مفصلة على مقاس مرض البارانويا والفساد الذى سيطر على رئيس الدولة آنذاك , حتى أنه أصدر كتاباً صدر عن الهيئة العامة للكتاب لعله قابع فى مخازنها الآن إن لم تكن أعدمته , بألوف النسخ من أموالنا نحن دافعى الضرائب – بعنوان " قال فصدق " . واضح طبعاً المسافة التى قفزها رئيس التحرير – وهى أكثر كثيراً من الألف عام - لكى يشبه نفسه بالصحابى الجليل أبى بكر الصدّيق الذى حصل على صفته الأخيرة لتصديقه للرسول الكريم فى كل شئ دون مناقشة وخاصة وهو يرد على بعض المتسائلين من المسلمين فى حادثة الإسراء والمعراج حيث قال قولته الشهيرة " إن كان قال فقد صدق " . المسافة التى قطعها رئيس تحرير صحيفة قومية سابق مارس عبرها ما يمكن وصفه بالارتزاق المهنى وخيانة الضمير كانت أكثر من الألف عام التى جعلته يشبه حسنى مبارك بالرسول ويشبه نفسه بأبى بكر . أما الكتاب الذى دفعنا جميعاً ثمنه وقبض جائزته , مثلما دفعت مصر أثماناً لا نهاية لها فما زال موجوداً يشهد على تعفن الضمير والقلم معاً , وهو نفس القلم الذى أنشب اظافره فى وجه الجماعة المحظورة سابقاً وكان يصفها بين قوسين ب المنحلة . لم يكن القارئ حتى المتابع لكتابته بحاجة لقراءة عموده بعدما كنا نراهن يومياً أن المقال الجديد سيكون أيضاً عن الرئيس فلا يُخّيب رئيس التحرير ذاك توقعنا أو توقعات رئيسه . اليوم – بعد الثورة – ما زالت هذه الأقلام التى طعنت كل معانى الشرف والمصداقية والموضوعية والضمير المهنى والاستقامة الحقيقية فى مقتل , ما زالت تكتب . من كان يصف ميدان التحرير ب " ميدان الخزى والعار " مطالباً بشنق الثوار ثم انقلب يعنون مانشيتاته " لك يوم يا ظالم " و " انتصرنا " وغيره ما زال يكتب . إنى أراها جريمة لا تُغتفر أن يستمر من قتلوا صحفنا القومية ( صحفنا أى صحف الشعب ) وخانوا تماماً ثقة القارئ ونبضه ومظالمه فى الكتابة , وفى مساحات وكتل أسمنتية ضخمة داخل نفس الصحف التى أفقروها مادياً ومعنوياً , أن يستمروا فى الكتابة . ولكى ننصف هناك شلتهم أيضاً , " الحاشية " التى كانت تنتظر أمام مقر الصحيفة بشارع رمسيس وصول المليك ولو كان يقطن مدينة نصر ويرتبك الشارع حتى لتظن أن ملك الملوك على وشك الوصول . إن أعدادهم كبيرة ونفوسهم نهمة وجريئة فى الباطل وعدم الحياء أولئك الذين نود حقاً أن نرى لو كانت أقلامهم وحدها قادرة على تطهيرهم , لماذا لا يجربون حظوظهم فى النشر مع أية صحيفة مستقلة مثلاً ليعرفوا مدى تقبل الناس لهم ؟ . ثم , إن كان كل فاسد سيظل يحتل مكاناً يقارب مساحة ملعب كرة قدم للكتابة ( وعددهم كبير بكل جريدة كما يتضح من الأعمدة الأسبوعية الخرسانية ) ألن يحتاج ذلك المنتخب إلى " صفيحة " – عفواً – صحيفة خاصة به ؟ . لأن لا أحد من القراء سيشترى صحيفة قومية أرهقها هؤلاء بالخسارة وألحقوا بمواقفها ومانشيتاتها العار الحقيقى وأسعار الورق مرتفعة , كما أن تلك الصحف عليها أن تدبر حالها بلا دعم من الدولة المنهوبة من الصنم والحاشية التى طالما مجدوها . إذن ما زلنا – الشعب وكل شريف فيه – يدفع بالإكراه ثمن ما لا يقرأ . الشعب ما زال يمول مساحات الكتابة المحجوزة لمن شتموه وخانوا أمانة الكلمة وأهانوا عقله عبر ثلاثين عاماً بينما ظل يهتف ضدهم بالاسم فى ميدان التحرير ! . فهل هذا هو العدل ؟ . يقول الله فى سورة الأنعام : " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى , وبعهد الله أوفوا , ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون " . أين ومتى سيكتب الشرفاء الذين تم منعهم من الكتابة طوال ثلاثين عاماً أو بعضها ؟ . هل يبحثون لأنفسهم عن صحف أخرى ويتركوا خرائب الصحافة القومية تنعق فيها ذات الغربان والجوارح القديمة ؟ . لأن هذا التنقل ليس ممكناً فعلياً أو سهلاً . إن الصحف القومية ليست جرائد خاصة للفاسدين الذين لم يتوبوا حقاً بل يستمرون فى التسابق المثير للاشمئزاز عبر صفحاتها لضمان نفس المساحات , وخلاص ! . لماذا يتحرج رؤساء التحرير بعد الثورة من تنحية تلك الأقلام جانباً وتوفير المساحة للكثيرين أيضاً ممن يستحقونها ويقدرون على تعويض جرائدهم خسارتها من المصداقية قبل أى شئ ؟ . لقد حدثت ثورة . ثورة ! لاتنسوا هذا، لأننا لن ندعكم تنسون .