حين ذهبت إلى تجمع أقباط قرية "صول" أمام ماسبيرو ذات يوم جمعة لم أكن أعرف أنى سأصاب بكل هذا الحزن ،ذهبت كمواطنة وإنسانة تتضامن لا كصحفية , وتجمع لدى قلق هائل ورعب أكيد . حدثنى المواطن { هل كان اسمه عزيز أرمانيوس } الذى " تبرع " , كما حكى , عن نصف قطعة أرض يملكها لبناء جامع فوقها. وقال بتردد كله اعتراض وغضب مكتوم مهذب " لأ.. ا ا ..اتبرعت" . وكانت اللافتة التى يحملها باسمه ومشكلة أرضه تشرح المأساة . مواطن آخر كبير السن ورقيق الحال والملبس كان يبيت فى خيمة بدائية بالشارع أمام ماسبيرو وقال بغضب " أنا أرزقى يعنى يوم بيوم لكن جيت هنا " شارحاً لى قيمة أن يموت إنسان فى سبيل الدفاع عما يؤمن به وتأمين حقه , فى الكرامة وحرية المعتقد والمساواة والأمن .... دون أن يقول أى من هذه الكلمات . لماذا صرت فجأة , وبمفردى , رمزاً لكل دينى ؟ . هل كل هذه الكراهية التى رأيتها وسمعت أسبابها فى وجوه كثيرة " أنا " السبب فيها ؟ أم بالأحرى " نحن " ؟ وكيف صارت "نحن" هى " أنا " ؟ . أقف وأتحرك وسط طوفان قبطى , أطفال رسموا جباههم بكلمة " قبطى " باللون الأحمر وأسألهم أسماءهم وأقول اسمى . الأقباط يلتقطون الصورأما أنا فلا . حولى مصريون من كل الطبقات يختلفون عنى فقط فى الدين . كان أحد الرجال من طبقة راقية يتكلم بعنف حقيقى أو هو غضب شديد ويمضى حتى أنى سمعت من يقول له " طب هى ذنبها إيه ؟" . كان أكثر من مواطن يجذبنى بعيداً عنه وأنا أريد أن أذهب وراءه . عاد واستمع من نفسه ولما اطمأن إلى أفكارى سألنى اسمى فتشابه اسمى والدينا . سأرى يوم " جمعة الغضب القبطية " مصر أخرى يحق أن نخاف من أن نؤول إليها حيث لا أمان أو كرامة لدى المختلف عنا كأنما هو عدو. سأرى " ثمار " عصور الإتلاف لمصر بالقوانين الهادمة للمساواة والعدل والمواطنة والتى أنجزت مهمتها بالتوازى مع خطط استهدفت ضرب وعى الجماهير بإعلام وتعليم فاسدين . تساءلت بين دموعى ما الذى أوصل بلدنا إلى أن يخاف القبطى على حياته لو ذهب يصلى فى كنيسته أو بحسب ما حكاه لى البعض يخاف من تهديدات السلفيين الصريحة على نساء عائلته , حتى وهو فى بيته ؟ . أين " الدولة " ؟ . أكثر ما أحزننى أنى رأيت نفسى ضعيفة , واحدة فى مواجهة مئات الأقباط الغاضبين الذين يريدون أية فرصة للتعبير عن غضبهم وإيصال حنقهم المكتوم كالبخار إلى الطرف الآخر حتى لقد شبه أحد الشباب الفترة الحالية التى يمر بها الشعب القبطى بعصر دقلديانوس . طبعاً لا أحب كلمة " الشعب القبطى " . لكن هذا الذى لا نحبه فى عمق وجدان الأقلية أنها أقلية يعنى عقدة اضطهاد , تحتاج زمناً وسياسات لتغييرها ليصبح الشعب المصرى هو الحقيقة الراسخة ما يعنى " تفكيك " كل البنى والنظم والقوانين والأفكار التى خلقت " شعباً مسلماً " و" شعباً مسيحياً " وربما "شعباً بهائياً " وآخر قد يطفر بمطالب أقلية مختلفة كالأقلية النوبية وهكذا إلى ما لا نهاية . لم يبدُ الشاب محرضاً بل هادئاً وأشار إلى ضرورة أن يبدأ كل واحد بنفسه وضرب مثلاً بموضوع التدخين . هنا تذكرت , دون أن أقول , كيف وجه أحد الرجال الملتحين فى ميدان التحرير قبل ذلك بقرابة شهر نفس الدعوة بهدوء وهو يعبر بجانب الشباب . وحين تكلم الشاب القبطى عن معجزة نقل جبل المقطم التى أعرفها وهم ينصتون بدأ أكثر من شاب يقول أنه على استعداد للاستشهاد . لم يقبل أحد الرجال الأقباط تدخلى بحزن قبل ذلك بساعات وهم يهتفون " ارفع راسك فوق أنت قبطى " وغضب من دعوتى أنه يجدر أن يقولوا " ارفع راسك فوق أنت مصرى " .. تكلم بغضب عارم عن أحقيته فى أن يقول "قبطى" وليس " مصرى" لما يحدث لهم , فيما ظل أحد المسنين يهدد موجهاً كلامه لى " واحنا كمان نقدر نعمل كذا وكذا ". لم تنجح يدى التى وضعتها بهدوء على وجه مراهق صغير فى تهدئته فهو ممتلئ بتاريخ سلبى من تفاصيل قمع وسخرية وقسوة من المسلمين وكان هذا سبباً لما شاركت فيه الأقباط استنكارهم : لماذا يفرض عليهم أن يحفظوا نماذج من القرآن ضمن التمارين والأمثلة فى منهج اللغة العربية ؟ . والحقيقة أنها نقطة أثارها بعض المهتمين بالتعليم ونهضته من الأكاديميين المسلمين من سنوات , وأراها ك " حصة دين " بالالتفاف والإكراه" وإلا كيف نبرر اعتساف وتعصب بعض العناصر المسيطرة على العملية التعليمية فيما يتصل بصياغة الأسئلة والتمارين على نحو أحادى يقوم بتصدير نفس أحاديته وإلغائه للآخر فى المناهج , رغم اتساع التراث الشعرى العربى الذى يمكن من استبدال نماذج الآيات القرآنية بنماذج من الشعر العربى دون أن يخسر أو يتأذى أحد ؟ . الرجل الذى حكى لى عن كتاب الأضواء للعام الماضى ولا أذكر لأية مرحلة تعليمية, قال أن زوجته اكتشفت تمريناً للتضاد قبيل التدريس لابنهما فكان الكتاب يضرب أمثلة على النحو التالى : نقيض كلمة "عدل" مثلاً " ظلم " ونقيض " الشر" هو " الخير" والكارثة أن نقيض كلمة مسلم كانت : مسيحى . سألت الرجل لماذا لم يذهب إلى النائب العام بالكتاب ؟ . اكتشفت من رده أن إرث المسالمة إلى حد الشلل قد بلغ حداً ينذر بالعكس , أى ب " تسونامى طائفى " لا قدر الله وبالطبع هذا دليل على الغياب التام للشعور بالمواطنة حيث اكتفى النظام السابق بحل أي إشكال طائفى عبر قنوات لا تنتمى للقانون وإنما اعتماد سياسة تقوم على حل كل موقف بطريقة تحل ما هو ظاهرى سريعاً وبشكل مؤقت حتى وإن أدى ذلك لمزيد من التعميق لمشاعر اللانتماء والانكفاء الصريح لكل جماعة أو طائفة نحو " زعيمها" أو مرشدها الروحى والتعامل من منطلقات سلبية حيث اليأس والتيئيس والرهان على الاكتفاء بما يلقى إلينا من بقايا حقوق أصيلة لنا بدلاً من العمل معاً لإقامة دولة مؤسسات تستطيع بالاحتكام للقانون وليس جلسات عرفية برعاية الحزب الحاكم حل المشكلات العميقة , ومحاربة الإفراغ العمدى الممنهج للسياسة التعليمية والمناهج التربوية من هدفها فى محاربة التجهيل والتعصب وكل إرث الفاشية والإلغاء للمختلف . لم يكن هذا كل شئ أمام ماسبيرو . بدأت النساء يشكرننى حين عبرت عن رأى الحزين القلق فى الميكروفون . اقتربت سيدة كبيرة السن قائلة " فى منكم كويسين" وعلى غرابة الجملة شعرت فى لحظة ما أنى أرغب فى ضمها إلى صدرى فقد شكرتنى كثيراً . كانت نفس اللحظة بالنسبة لها لكن هى كانت أسرع . بعد عناقنا طلبت منى أن أصلى لها وطلبتُ منها أن تدعو لى. حدث هذا كله بشكل طبيعى ودون تصوير ولكن كله حزن وقلق , خاصة حين فاجئتنا سيدة راقية لاحقاً بغضب شديد وهى تحكى عن حادثة أخرى على موقع أعترف أنى لم أكن أعلم به واسمه " الحق والضلال" صرت أدخل عليه أوقاتاً بعد ذلك . قالت القبطية الغاضبة بعد سرد حادثة لا أتذكرها ورداً على تعليق أحد المواطنين الأقباط " ممكن تكون إشاعة " فكان ردها المذهل لى " النت ما بيكدبش " . هنا أجبتها : " النت ممكن يبقى أكبر وسيلة لنشر الإشاعات وممكن أقول أنى رجل وأنا إمرأة . لكن أنا أصدق أن الإشاعة تنشط مع وتختلط بالحقائق " . وبعيداً عن ماسبيرو كان دائماً ما يلفت نظرى صوت الأذان فى ميكروفونات محطات المترو . سبق أن كلمت ضباط وأمناء شرطة المحطات قبل الثورة فى هذا . آخر مرة كانت بعد الثورة فى محطة مترو الدقى . كان الأمين يستعد للصلاة بعدما سمعت الأذان بصوت مرتفع جداً . قلت له " حرماً مقدماً " وكان قد خلع حذاءه وأريته بطاقتى ليعرف ديانتى قبل بدء الكلام ( لاحظوا أنى تجرأت أصلاً لكونى غير مسيحية ومن ثم تعاملت أنا نفسى بمنطق دفاعى ابتداء , أى تعاملت " بحصانة المسلمة " وليس بثقة " المواطنة ") . رغم هذا استنكر مذهولاً والماء يقطر من قدميه استعداداً للصلاة حين قلت: " يعنى من حق الإخوة المسيحيين ييجوا يسمعونا الأجراس فى المترو زينا" . جاءت إجابته المستنكرة " يعنى نسكت الأذان ؟" فقلت : " أيوه . ده مكان عام يعنى مايبقاش الأذان فى ميكروفون جوه المحطة . ما ينفعش . حط نفسك مكانهم . " شعرت أن على أن أبرر وأقسم له أنى أصلى وقد وقف جندى شرطة بجواره ينظر لى بارتياب بالغ . مع صعوبة تفادى نظراتهما المستاءة المتشككة ادعى الأمين أنه سيرفع الشكوى بهذا الكلام أما أنا فاعتذرت له عن تأخيرى له عن الصلاة وشكرته ومضيت . كان جلياً أن مفهومى عن العدل لم يعجبه . ما الذى حدث فى نفس اليوم وأنا عائدة لنفس المحطة فى المغرب ؟ كان أذان المغرب يدوى فى ميكروفون المحطة . وكذلك الحال فى نقابة الصحفيين فى تليفزيونها العمومى بالبهو الرئيس الذى لفت نظرى لذلك مستنكراً ومستغرباً حتى قبل الثورة كان الناقد العراقى المقيم بمصر خضير ميرى ، دائماً ما تجد لدى دخولك النقابة صوب البهو الرئيس التليفزيون مفتوحاً على القرآن الكريم فى إحدى القنوات الدينية وبأعلى صوت , إلا إذا جاء أحد وأراد متابعة فضائية عربية مثلاً ما يستدعى التساؤل : لماذا نصر فى كل لحظة على تذكير الآخر أنه فى بلد إسلامى ؟ لماذا حالة الاستنفار المزمنة كأنما هناك مؤامرة مزمنة أيضاً على دين الأغلبية فى مصر ؟ من الذى يضطهدنا ؟ ألم نعرفه حتى الآن ورغم الثورة ؟ . ولماذا نحمل الآخر كوننا لم نشفَ بعد ؟. ما الذى يبرر خوفنا ومعاداتنا والهيستيريا التى يتعامل بها البعض من المواطنين والدعاة الذين يحشدون الناس كأننا نواجه حرباً صليبية ؟ . أليس من واجب الأغلبية أن تستوعب مخاوف وهواجس الأقلية طالما الثانية تعيش فى حمايتها, وطالما لازمها "قلق الأقلية" فى دولة لا تعتمد على المؤسسات فى حل صراعاتها ؟ . حتى الذين يساوون بين التعصب المسيحى والتعصب الإسلامى ليسوا منصفين . الإسلام كالدين الرسمى للأغلبية بالدولة لن يتراجع أو يخفت دوره كمنظومة أخلاقية حاكمة بداخل ضمائر أتباعه إذا ما مارسنا التسامح والاحتواء تجاه مخاوف الآخر أياً ما كانت ديانته على العكس سوف تتجلى المبادئ والمعانى الحقيقية لفكرة التسامح فى ظل دولة مدنية لا يحدث فيها ما حكاه لى الزميلان وليد صلاح ونادية مبروك بجريدة الكرامة . حكى الزميلان أنه فى يوم 2 أبريل أغلق أنصارالجماعة السلفية الطريق المؤدى إلى مسجد " التقوى" عبر لجان تنظيم لم تسمح للمرور إلا لمن كان يعلن أنه يتوجه للجامع لسماع خطبة الشيخ محمد حسان , بل أن زميلتى نادية مبروك المحجبة تعرضت للزجر المجنون من سلفى سمعها تنتقد الشيخ حسان فطالبها أن تعيد تلاوة الشهادتين . وحكت كيف أن شقيقتها المحجبة التى ترتدى عباءة سوداء فوق الحجاب تعرض لها سلفى آخر محذراً أنه " لن يؤذيها هذه المرة لو قبلت النصيحة " وأجابته أنها تقبلها , أى مطلبه الذى جعله مطلب الله , وهو ما سماه بالزى الشرعى أو النقاب . وأضافت الزميلة كيف بدأ السلفيون يتحركون صوب المحلات فى منطقة السيدة زينب كى " يحذروا " الزبائن من النساء , وأصحاب المحلات سواء بسواء من عدم بيع أو شراء أية ملابس غير شرعية كما أكد الزميل وليد صلاح أن أنصار السلفية وعلى مدى أربعة أيام دأبوا على إجبار المواطنين فى منطقة " أم بيومى " فى دائرة قسم أول شبرا الخيمة على إبراز بطاقاتهم القومية " لهم " أى للسلفيين , للتأكد من نوع العلاقة أو صلة القربى بين أى رجل سائر بصحبة سيدة ومعرفة إذا كان من ذويها أى بدأت الحركة فى تشكيل وتفعيل شكلاً يقترب من جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر السعودية . ألا يحق لى كمسلمة تنشد الأمان وحماية كرامتها وحياتها إن هى سارت فى الشارع بلا حجاب , وإن بحشمة ملبس وسلوك , أن تتمسك بالدولة المدنية التى , بالمناسبة , لا تدعو للعيب فى الذات الإلهية ولا تفرض خلع النقاب أو الحجاب ولا تفرضهما كزى أوحد على الجميع أيضأً ؟ . من الذى يعطى أى مصرى الحق أن يعلن طرده لكل المواطنين المصريين الذين لا يوافقونه فى الرأى ؟ . أين نحن يا شيخ يعقوب ؟ . أؤكد لك أنه لو كان هذا هو الإسلام لما وصل الدين السمح إلينا وربما كان انقرض ومات من أكثر من ألف عام . وأؤكد لك أنه لو كان هذا هو الإسلام فأنا لا أريده ولست بمسلمة . وإذا كان ثمة حقيقة أو دين أو أخلاق تقضى , كما أشارت الصحف , بإهدار دم د.البرادعى والشيخ القرضاوى معا , وأقصد الفتوى المزعومة للشيخ السلفى محمود عامر الذى سمعنا أنه ينوى الترشح لرئاسة الجمهورية فلا يمكن أن أنتمى لا أنا ولا الملايين غيرى لمثل تلك الحقيقة أو الدين أو الأخلاق . ولا أصدق أن أى دين يدعو إلى القتل ولا أصدق أن ثمة " حد للردة " فى الإسلام الصحيح الذى مصدره القرآن وكل ما تقبله الفطرة السليمة... " إلا من أتى الله بقلب سليم " . لسنا كفاراً ولا عصاة ولن نقبل بالوصاية علينا وقتل الحرية التى خلقها الله فينا منذ أعطى الإنسان حق أن يؤمن أو يكفر به , تلك الحرية التى استشهد فى سبيلها المئات ومازال الملايين, بعد تذوقها , على استعداد أشد للاستشهاد من أجلها ،فبالحرية أنا مسلمة .