تسارع الاحداث وتغييرها بين ساعة واخرى على حكم مصر، وعلى خلافة مبارك الذى اسقطت الجماهير شرعيته وشرعية الحزب الوطنى الحاكم اثر اندلاع مظاهرات 25 يناير الماضى، قد تضع صعوبات امام تخيل السيناريو النهائى الذى يمكن ان ينتهى اليه هذا الصراع ، وان كانت قد لا تحجب حتى الان رؤية قوى الصراع وامكانياتها ، وهو الامر الذى قد يشكل صعوبة كبيرة امام الكتلة الكبيرة من المصريين الصامتين المتفرجين على هذا الصراع سواء رغما عنهم او باختيارهم وهم الاكثر ضررا طوال حكم مبارك ، خاصة وان كل قوة فى حلبة الصراع تقوم باستعراض عناصر قوتها الداخلية والخارجية من خلال اجهزة الاعلام وخاصة الفضائيات . فالشباب والمواطنون البسطاء الذين خرجوا فى مظاهرات تزايدات قوتها بالتدريج منذ يوم 25 يناير ، وبلغت ذروة قوتها التظاهرية فى جمعة الغضب يوم 29 يناير .. مطالبين ببعض التغييرات ، واجرءات اصلاحية على النظام الحالى ، لم يستطع اركان النظام الحالى قراءتها وتقدير مدى تاثيرها المتوقع على الشارع المكبوت غضبا ، قد ادى بدون ان تدرى ، وبسرعة غير متوقعة ، بتحول كرة اللهب الصغيرة الى نيران مستعرة وجدت من يؤججها من الداخل والخارج ويحاول توجيهها لوجهته ، مما اخذ بالصراع لمنحنى كبير ، حاولت خلاله القوى المتصارعة حشد كل عناصر قوتها ، ومحاولة فرض شروطها على لعبة حسم الصراع ، واتخاذ ميدان التحرير على وجه التحديد مكانا او مسرحا لحسم هذا الصراع ، وهو الامر الذى قد يؤخر عملية اخلائه ، والانتقال بالصراع الى اماكن مغلقة اخرى خارج الميدان . ففى الساعات الاخيرة من يوم ما اطلق عليه " جمعة الرحيل " التى تفسرها كل قوة حسب رؤيتها ، فالقوة الصلبة الممثلة حتى الان فى الجيش ومجلس الوزراء ونائب الرئيس عمر سلمان ، المعينين من قبل مبارك ، يرون انه يجب ان تكون هذه الجمعة للرحيل من ميدان التحرير ، بينما يرى المعارضون لمبارك ، على اختلاف اطيافهم ، ان هذه الجمعة يجب ان تكون لرحيل الرئيس مبارك وكل اركان نظامه عن البلاد .. وهو الامر الذى اتاح بلورة القوى المتصارعة على الحكم بقدر معقول من الوضوح امام الكتلة الصامتة من المصريين المحجوزين فى منازلهم بقرارات حظر التجوال ، والذين تم اقصائهم عمليا عن المشاركة فى حسم هذا الصراع فى وقت مبكرجدا ، منذ ان استحوذ الحزب الوطنى الحاكم على عمليات صنع القرار فى مصر سواء فى شكل الممارسة السياسية او المحاسبة البرلمانية وكذلك على كل اجهزة الاعلام الرسمية ، حيث عمل تنظيم هذا الحزب وقياداته على اضعاف كل الاحزاب والقوى السياسية المختلفة ، وشل حركتها وسط الجماهير ، واقصاء كل فئات الشعب من المشاركة فى صنع القرار وعدم دخول المؤسسات التشريعية ، حتى ولو بنسبة ضئيلة ، وذلك عن طريق التزوير للانتخابات البرلمانية الاخيرة بصورة فاضحة ، ومهينة لكل فئات الشعب ، وليس فقط للناخبين والمنتخبين، مما وضع غالبية الشعب المصرى امام خيارواحد وهوضرورة مواجهة هذا النظام و كل اركانه مهما كان الثمن فالسبب وراء هذه الانتفاضة الشعبية ليس فقط كما يحاول ان يروج البعض حتى الان المتاعب المعيشية والفقر والبطالة المتفشية بين الشباب ، فقد تجاوز النظام و كل المنتمين له كل ذلك بتعمد اهانة واذلال الناس باشكال مختلفة فى الحصول على لقمة العيش وفى حصول الشباب على فرصة للعمل حيث استحوذ رجال النظام والمنتمين له واولادهم على كل فرص التوظف الجيدة والترقى بدون مراعاة للخبرة او الكفاءة واغلاق كل منافذ الامل امام غالبية الشعب ، بل والانزلاق بهم وبالبلاد كلها الى فوضى امنية عرض حياتهم وممتلكاتهم للخطر ، ووضع البلاد امام شبح حرب اهلية تاكل الاخضر واليابس ، وتسمح لقوى خارجية بالتدخل فى الشئون المصرية ، وهى افعال تتسم بالخيانة العظمى لهذا البلد ، حيث تعمدت هذه القوى الاطاحة بامن واستقرار البلاد وكل مصالح العباد ، وفتح الباب على مصرعية امام تصارع قوى خارجية على التدخل فى الشئون المصرية ، لتصفية صراعات دولية على ارض مصر ، مثل تلك المواجهة الجارية حاليا بين ايرانوالولاياتالمتحدة على ارض مصر ، حيث وجدت كل قوى منهما فى هذا الصراع الدائر على حكم مصر ، بيئة ، وتوقيتا مناسبا ليعبر عن نفسه بوضوح ، مستخدما عناصر داخلية ذات ميول دينية وايدلوجية استطاعت ان تركب بوضوح موجة الثورة الحالية ، وقررت التشبث بمسرح الصراع فى ميدان التحرير وعدم مغادرته لحين الاستجابة لشروطها . واليوم ، وفى الساعات الاخيرة من هذا الصراع ، يمكن ان نرى بوضوح تلك القوى المتصارعة بعد ان تبلورت لحد كبير . فهناك تلك القوى الواضحة منذ بداية الصراع والتى يمكن ان نطلق عليها بالقوى الصلبة والتى تمثلت فى الجيش الذى تنتشر مدرعاته ودباباته فى اماكن كثيرة فى المحافظات الملتهبة وبالذات فى ميدان التحرير بوسط القاهرة وحول قصر الرئاسة بمصر الجديدة ، والذى يبدو انه قد حسم امره اخيرا بالوقوف الى جانب اختيار اللواء عمر سليمان نائبا لرئيس الجمهورية والفريق احمد شفيق وزير الطيران ورئيس القوات الجوية سابقا رئيسا لمجلس الوزراء ، حيث قام كل من المشير حسين طنطاوى وزير الدفاع والفريق احمد شفيق بزيادة مسرح الاحداث فى ميدان التحرير ، ومحاولة فك الارتباط او الاختلاط الحالى بين المتظاهرين العاديين من الشباب ، وقوى جماعة الاخوان المسلمين . وحتى الان لم يتضح مدى نجاح هذه الخطوة او هذه المحاولة ، وان كانت هذه الخطوة قد تعكس ان الخلاف حول استمرار الرئيس مبارك حتى نهاية مدته الرئاسية او عدم استمراره ، قد يجد حلا يرضى جميع الاطراف الداخلية والخارجية المطالبة باقصاء الرئيس فورا عن سدة الحكم ، وان كان بالتاكيد لن يرضى جماعة الاخوان المسلمين والراديكاليين الجدد من الشباب المعارضيين ، الذين يطالبون بالرحيل الفورى لمبارك عن الحكم والبلاد ، وهو ما يمكن القول ان الجيش يرفضه اجمالا حتى الان . وان كانت مؤسسة الرياسة وبقايا الحزب الوطنى الحاكم ترفضه حتى الان بقوة ، وذلك من منطلق تحقيق الرغبة الاخيرة لمبارك بالبقاء والموت على ارض مصر ، وتحقيق اكبر مكاسب لهم فى هذا الصراع والبقاء فى الحكم حتى لو لعدة اشهر لترتيب اوضاعهم والخروج سالمين غانمين من البلاد بما نهبوه من ثروات . واذا كان المشهد الحالى يشير الى ان الجيش يلوح باستخدام قوته الصلبة لحسم هذا الصراع واخراج المعارضين من مسرح الصراع فى ميدان التحرير، فان قوى خارجية وبالذات الولاياتالمتحدةالامريكية ، التى لديها قنوات اتصال واضحة مع مسئولى الجيش ، تسعى من خلال المفاوضات لكسب تاييد الجيش نحو تنفيذ حلول وسطية تحقق بعض مطالب قوى الاخوان المسلمين والراديكاليين الجدد بنقل السلطة فورا من يد الرئيس مبارك الى مجلس رئاسى ، لم يعلن حتى الان بوضوح عن تشكيلة ، وان كانت التكهنات ترجح تكوينه من نائب رئيس الدولة اللواء عمر سليمان، والمشير محمد حسين طنطاوى والفريق اول احمد شفيق رئيس مجلس الوزراء ، وهو ما يعنى اجمالا استحواذ الجيش على هذا المجلس و على مجريات الفترة الانتقالية لحين اجراء انتخابات رئاسية جديدة فى شهر سبتمبر المقبل . وهو الامر الذى ينتقده البعض لانه يتجاهل ضم اى عنصر قضائى لهذا المجلس المقترح ، مثل رئيس محكمة النقض اورئيس المحكمة الدستورية العليا . اما اقتراح ضم عناصر تمثل القوى المعارضة قد يواجه بانه لا يوجد للمعارضة فى الوقت الحالى اية تمثيل قانونى مثل عضوية البرلمان ، يمكن الاستناد اليه فى فكرة توسيع عضوية هذا المجلس الانتقالى الرئاسى المقترح . لذلك فان قوى المعارضة التظاهرية ترفض فكرة الاعلان عن هذا المجلس رسميا ، وترى بدلا منه تشكيل حكومة انتقالية تمثل فى عضويتها ومن خلالها قوى المعارضة المختلفة فى مصر ،وذلك على غرار ما حدث فى تونس ، وان تتولى هذه الحكومة الانتقالية الاشراف على عملية اختيار جمعية تاسيسية منتخبة لاعداد دستور جديد للبلاد . وهى امور قد تحتاج وقتا لن يقل عن سنة فى اغلب الاحوال ، يمكن ان تدفع الاوضاع الحالية فى البلاد على سيناريوهات مفتوحة تنزلق بها الى الفوضى ، وعدم على السيطرة على الامور اذا ما نشبت خلافات بين القوى المتصارعة على الحكم . ومن هنا ، فان الوصول لحلول منطقية وواقعية خاصة من جانب جماعات الاخوان المسلمين والراديكاليين الجدد قد يساعد على تقصير امد الصراع ، وعدم الانزلاق لحسم الصراع الحالى باستخدام القوى المسلحة او بالعنف الدموى ، الذى سيوقع بابرياء كثيرين ، ويصب فى مصلحة المستفيدين من بقاء الاوضاع الحالية للنظام وسيطرة حزب واحد على الحكم . لذلك ، فان جماعة اخوان المسلمين بالذات ، يجب ان تراجع بدقة موقفها الحالى فى ضوء صراعها التاريخى على السلطة وبالذات مع قوى الجيش ، وفى ضوء ما حدث فى عام 1954 ، عندما رفضت كل اقتراحات واشكال المشاركة فى الحكم التى عرضها عليها مجلس قيادة الثورة فى ذلك ، واصرت على الانفراد بالحكم واستبعاد الجيش من اللعبة بالعودة الى ثكنات الجيش ، والتى ادت فى النهاية الى ذلك الصدام الدموى مع قيادات ثورة الجيش ، والذى اسفر فى مرحلة منها عن انقسام قيادات الجيش واسلحته حول نهج او طريقه حسم الخلاف حول الحكم ،بين تشبث القلة من هذه القيادات بالنظام الديموقراطى و انحياذ الاغلبية الى النظام الشمولى و الدكتاتورى الذى استحوذ على حكم مصر لاكثر من 60 عاما حتى نهاية اخر حلقاته مع وصول الرئيس حسنى مبارك الى الحكم واستمراره لنحو ثلاثين عاما . ويمكن القول ان غالبية فئات الشعب المصرى ترى قوى الجيش المؤيدة للاصلاح بما فيها كل من نائب رئيس الجمهورية المعين ،ووزير الدفاع و رئيس الوزراء الحالى ، مطالبين اليوم بتهيئة المناخ الرسمى حتى يحس المصريون بان التغيير فى مصر قد بدا بالفعل على ارض الواقع ، وهو الامر للاسف غير ملموس حتى الان باى شكل ، فلازالت اجهزة الاعلام الرسمية الحكومية من تليفزيون وصحف قومية تناصر بوضوح قوى الحزب الوطنى واركان نظام يتهاوى ويفرط فى استخدام العنف للدفاع عن مصالحه دون تدخل فعلى من الجيش للجمه ومنعه من ارتكاب جرائمه. كما ان هذه الصحف واجهزة الاعلام لازالت تتحدث بنفس اللغة و تستخدم نفس المفردات البائدة التى ادت الى ان يفقد الشعب ثقته فيها ، بل ومازال ويعتبرها شريكا فى كل نواحى الفساد التى طغت على حقبة مبارك والتستر عليها والترويج لرموزها . ان مصر فى حاجة اليوم الى التغيير الحقيقى والفعلى ، الذى يلمسه بوضوح المواطن العادى فى اتجاه تاسيس الدولة المدنية الحقيقية ، وليست الشكلية ، و التى يدار فيها الصراع على السلطة وفقا لقواعد اللعبة الديموقراطية السليمة على النمط الغربى ، والتى تحترم حقوق الانسان ، وتعلى من شان المحاسبة ، وتكرس مفهوم تداول السلطة وفق الاختيار الشعبى عن طريق صناديق الانتخابات بعيدا عن البلطجة ، و عدم التدخل الامنى السافر الذى يهدر كل حقوق الانسان ، ويتحالف مع اصحاب المال للاستحواذ على السلطة .. ان كثيرا من فئات المصريين على اختلاف وضعهم الطبقى .. من فقراء واغنياء وطبقة وسطى يطمحون الى فجر يوم جديد يبشر بغد افضل لشباب مثل الورد وفتيات مثل الياسمين لم يبخلوا بدمائهم الذكية وارواحهم الطاهرة من اجل ولادة هذا الغد ..فيجب ان نتكاتف جمعيا لابعاد كل المتامرين فى الداخل والخارج عن غرفة الولادة ، حتى يخرج فجر يومنا الجديد قويا ..واضحا وحتى تخرج مصر اكثر قوة و عافية و اكثر استفادة من هذه الثورة العظيمة .