ساعات ويطل يوم 25 يناير الذي تتباين النظرة إليه بين المتفائلين الحالمين وبين المحبطين اليائسين علي حد سواء ، ما بين من يتمني أن يكون يوما لانطلاق ثورة ستطيح بالنظام .. وبين من يراه مجرد وقفة فاشلة تؤكد أنه "مافيش فايدة" ، إلا أن رؤية الصورة الكبيرة بكل تفاصيلها يظهر أنه لا هذا ولا ذاك. فعلي الجانبين أن يدركا أن مصر بطبيعة نظامها وأجهزتها الأمنية لن تشهد أبدا ثورة انطلاقا من تظاهرة معلوم موعدها ومكانها مسبقا ، لأن الأمن وبكل بساطة سيقوم بكل وسائل عرقلة التظاهرة ومنها إلقاء القبض علي عشرات ومئات الداعين النشطين إليها كما حدث فعلا ، إلي جانب عمل كردونات أمنية حول الأماكن الجوهرية المحتملة ، ثلاثة أو اربعة مثلا بقطر 5 و 3 و2 و 1 كيلو متر عن مركز التظاهرة ، وبالتالي لن يصل لمكانها أكثر من 10 % فقط من الراغبين في المشاركة فيها ، لذا فالبعض يري أن أي تغيير عن طريق الشارع لن يتحقق إلا بخروج تلقائي عفوي جماعي مفاجئ! لذا فإن القيمة الحقيقية لتظاهرة 25 يناير أنها تعد رسالة قاطعة بأن وقت المناشدات والمطالبات والتوقيعات قد ولي إلي غير رجعة ، وأن الآن جاء وقت الشارع الذي يقوده شباب لامنتمون لأحزاب أو تيارات سياسية بعينها ، ووضع المصريين علي طريق الاستعداد للثورة والتدريب عليها ، وإعطاء الثقة للخائفين أو اليائسين من حدوث تغير علي الأرض ، وتسريع التنسيق للبحث عن البدائل حين يحدث "الشيء الما " الذي سيطلق كل شيء من عقاله ، بحيث يصبح الأمر ليس هل ستحدث الثورة .. بل متي ستحدث. كما أنها ستؤدي لإيصال رسالة مزدوجة للنظام وللمعارضة سواء المزيفة أو الواهنة في آن واحد .. بأنه قد جاء دور الغالبية الصامتة لتقول كلمتها ، بعد أن فقدوا الأمل في الجميع بما فيها أحزاب المعارضة الواهنة ولا الإخوان بمطالبهم العشرة، وأنهم لن يسمحوا لأحد بسرقة تحركهم وجهدهم وبالتالي ثورتهم القادمة ! لكن هؤلاء الشباب ورغم صدقهم وإخلاصهم وحماستهم إلا أنهم يفتقدون الوعي السياسي القادر علي قيدة ثورة بخطط مستقبلية لحكم بلد بحجم مصر، لذا عليهم تقديم استراتيجية واضحة محددة قابلة للتنفيذ ، بمطالب متدرجة تحظي بالإجماع الشعبي ، خاصة أن النظام المصري هو "نظام أوليجارشي" يقوم علي تحالف "السلطة والثروة" أو بالأحري "الاستبداد والفساد" ، بحيث أن بقاء أحدهما ضمانة لبقاء الأخري وسقوطه مؤديا بالضرورة لسقوط فوري للأخر ، مما يجعل العمل علي التخلص من الاثنين هدفا جوهريا. ورغم أن هناك أحلاما وآمالا كثيرة كانت موجودة لدي البعض لإحداث تغيير إصلاحي من الداخل ، لكن هذا ثبت فشله بشدة بعد تعديل الدستور بالصورة المشوهة اللادستورية التي خرج بها ، إلا أن الانتخابات البرلمانية الماضية كانت بمثابة الانتحار للنظام السياسي المصري ، وإعلانا بأنه بات نظاما غير قابل للإصلاح أو حتي للتعديل. لكن تظاهرات 25 يناير بالذات يجب أن تقتصر علي الشباب وكذلك السياسيين المخلصين ، لا محبي الظهور في الفضائيات .. وينبغي ألا ترفع فيها أي شعارات حزبية أو فئوية .. لا صور عبد الناصر ولا البرادعي ولا أي شخص ، لا هلال ولا صليب ولا مصحف وسيفين .. فقط "علم مصر" ، وكذلك عدم رفع شعارات سياسية لا يفهمها المواطن العادي ، لا تداول السلطة ولا تصدير الغاز لإسرائيل ، بل بمطالب واضحة ودقيقة ومحددة وعالمية ، وتكتب باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية للتأثير علي المشاهد العالمي دون الحاجة للترجمة. بشعارات لا يختلف عليها أحد في مصر أو العالم مثل "العدالة" ،"الحرية" ،"المساواة" ، "نريد فقط العمل والخبز والكرامة" ، "لا للفساد" ، "لا للاستبداد" ،"لا للتعذيب" ، "لا للقتل" ، "نعم لإلغاء قانون الطوارئ" .. "العدالة لخالد سعيد وسيد بلال وماريان" . لكن لا توجه الرسائل هنا كمجرد مطالبات ومناشدات ، بل كمطالب للشعب المصري واجبة التنفيذ فورا . أما في التظاهرات التالية فسيتم رفع المطالب تدريجيا ببطلان مجلس الشعب وعدم دستوريته هو وأي قوانين أو قرارات تتخذ بإسمه بما فيها الترشيح لانتخابات الرئاسة القادمة وبالتالي عدم دستوريتها ، إلي جانب وضع استراتيجية واضحة لمستقبل مصر تعتمد علي إحداث تغيير شامل لبنية وهيكل النظام السياسي بدستور جديد من خلال لجنة لرجال قانون مستقلين مشهود لهم بالكفاءة بحيث يضمن المساواة الشاملة لجميع المواطنين مسلمين أو مسيحيين ، رجال أم نساء ، فقراء أم أغنياء ، مسئولين أم مواطنين عاديين، وإدخال إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية وتعليمية وعلمية جذرية شاملة ، بتطوير شامل للتعليم والبحث العلمي ، ومد مظلة التأمين الصحي الشامل لجميع سكان مصر، وإيقاف كل السياسات الاحتكارية ونهب أراضي الدولة ومواجهة الفساد والرشاوي ، وتحقيق استقلال حقيقي للقضاء عن السلطة التنفيذية والتشريعية ، واستقلال الإعلام وحريته ، وتخفيض جذري في أعداد رجال الأمن ، وإعادته ليكون فعلا لحماية أمن المواطن وخدمته. وإنهاء تام لقوانين الطوارئ وكل القوانين المقيدة للحريات ، وقوانين مباشرة الحقوق السياسية وحق الترشح لرئاسة الجمهورية ، وأن يكون لمدتين رئاسيتين فقط ، وكذلك السماح بتأسيس الأحزاب بمجرد الإخطار، إلي جانب وضع حد أدني للأجور والمعاشات يتناسب مع الأسعار ، ووضع سياسة ضريبة تدريجية تصاعديه تنعدم علي الخدمات الصحية والزراعية والإنتاجية ، وتزيد علي رجال الأعمال والشركات الكبري. وربما يكون من الأفضل عدم حشر النظام في الركن بقوة حتي لا يدافع بضراوة عن وجوده بطريقة تؤدي لسقوط ضحايا ، وذلك بفتح باب "الخروج الآمن " للرئيس وعائلته ، وضمان عدم ملاحقة قادة النظام عما ارتكبوه في حق مصر ، ولكن ذلك فقط مقابل إعادة القدر الأكبر من الثروات المصرية المنهوبة والمهربة لبنوك سويسرا وغيرها ، وإعادة تأميم المؤسسات والبنوك والمصانع التي بيعت في صفقات مشبوهة ، وكذلك كل أراضي الدولة التي بيعت في الثلاثين سنة الأخيرة لكبار رجال الأعمال بأثمان بخسة بما فيها أراضي توشكي ، وتحميلهم أي تعويضات يقرها القضاء الدولي لمشتري هذه المؤسسات والأراضي . لكن المفاجئ أنه بينما أدرك الإخوان المسلمون بحسهم السياسي أن النظام وصل إلي طريق النهاية لدرجة محاولتهم استغلال ثورة الشباب القادمة بمطالبهم العشرة لتجنب ما أسموها بالثورة الشعبية القادمة، فوجئنا بمطالبة الكنيسة للمسيحيين عدم المشاركة في التظاهرات ، مما يعكس إصرارا علي انعزالية غير مفهومة ، ستفقد المسيحيين إن التزموا بها أي حق في الحديث عن ظلم واضطهاد يقع عليهم من قبل نظام هم أنفسهم يصرون علي تأييده ، وبالتالي عدم قطف ثمار النصر حين يتحقق ، بينما لم يكن موقف "تجمع" رفعت السعيد مفاجئا بعد الصفقات المتتالية مع نظام جعله زعيما لمعارضة ورقية في برلمان مشكوك في شرعيته. إلا أن تجاوز تظاهرات 25 يناير لمكان واحد في القاهرة هي منطقة وسط المدينة .. وامتدادها لعديد من المدن المصرية وعلي رأسها الإسكندرية وتوقع تجاوزها حاجز العشرة آلاف متظاهر بكثير، سيكون بداية إيجابية لتطورات متتالية - خاصة بعد زخم الثورة التونسية - مما يمحص المواقف بين الداعين للثورة .. والرافضين بل والمتقاعسين، بحيث لن يكون هناك مبرر في "لحظة ما" لمسئول يقول " فهمتكم .. نعم الآن فهمتكم " ، أو تيار أو حزب يهاجم نظاما بأثر رجعي.. بعد رحيله .