مع تعقد الحياة وتعدد المعاملات وتنوعها، تنوعت أشكال الرشوة وأخذت تتنكر وتلبس أقنعة لكي يصعب التعرف عليها ناهيك عن الأمساك بها. وصار ما كان يتم في الماضي دائما وأبدا في الخفاء بأنماط معينة محددة ومعروفة، يتم هذه الأيام في العلن أمام أنظار الجميع ولكن في أشكال مستحدثة جديدة غير مألوفة. ذلك أنه بات من الممكن مع التطور التكنولوجي المذهل رصد وتسجيل بالصوت والصورة كل ما يتم خلف الأبواب المغلقة. وأضحى – في ظل جمود القوانين وعدم تحديثها لمسايره الواقع المعاش – من الصعب بل من المستحيل أحيانا التعرف على وجه الرشوة القبيح لاختلاف وتعدد أقنعتها. إن الرشوة المقنعة إذن تستلزم تحديث القوانين لملاحقتها والأمساك بها. وهو ما تنبه له المشرع في بريطانيا، فقد سن قانونا جديدا للرشوة في أبريل 2010 Bribery act، لمعالجة القصور الكبير في مجموعة القوانين القديمة الخاصة بهذا الموضوع والتي صدرت في الفترة ما بين سنة 1889 و 1916، وقد توسع القانون كثيرا في تعريفه لكل من الراشي والمرتشي، فعرف الراشي "بأنه كل شخص - يعتبر مرتكبا لجريمة - إذا انطبقت عليه أيا من الحالتين التاليتين. الحالة الأولى: كل شخص عرض أو وعد أو أعطى ميزة مالية أو غيرها إلى شخص آخر، لحثه على أداء وظيفته بطريقة غير سليمة، أو القيام بعمل غير صحيح، أو لمكافأته على عدم القيام بمهام عمله بشكل جيد. وفي الحالة الثانية: يعلم أو يعتقد بأن قبول المتلقى هذه الميزة في حد ذاته يمثل قصورا في الأداء وإخلالا بواجبات عمله ومهامه". هذا التوسع في التعريف كان ضروريا للأمساك بالفاسدين والمفسدين. فشبكة القانون هناك أصبحت الآن قادرة على الأمساك بكل راشي ومرتشي ورائش (الوسيط بينهما) مهما تخفوا وحاولوا تجميل صورهم. ويقسم فقهاء القانون الرشوة إلي رشوة صغرى وأخرى كبرى، وهي التي تعنينا هنا في المقام الأول لما تمثله من تهديد للنظام السياسي والاقتصادي والسلام الاجتماعي، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى تدمير الدولة ذاتها. وبطبيعة الحال فإن مرتكبين هذه الجريمة هم بعض أصحاب الياقات البيضاء من المسؤلين الكبار بالدولة وكبار رجال الأعمال والمستثمرين والإعلاميين والصحفيين......... وغيرهم من أصحاب التأثير الكبير في المجتمع وفي الشؤون السياسية والاقتصادية للبلاد. نحن لا نريد اتهام أحد هنا إطلاقاً، ولكننا نأخذ ما حدث بجريدة خاصة كمثال يساعدنا على شرح عملية معقدة وغير نمطية نظن أنه جرم يعاقب عليه القانون جنائيا بالديمقراطيات العريقة قليلة الفساد، إن ثبت. فقد تم مؤخرا رفع رواتب صحفييها بنسب تتراوح ما بين 100% إلى 300%، كما تم رفع مرتب رئيس التحرير (دون طلبه) من 25 ألف إلى 75 ألف جنيه! مضاعفة المرتبات بهذا الشكل يمكن أن يُشم منه رائحة كريهة (ربما يفسرها البعض شراء ذمم وضمائر الصحفيين لتطويع أقلامهم وتوظيفها في أغراض معينة، ولدك آسفين بينهم وبين رئيس التحرير ولشراء ولائهم حال وقوع أي خلاف معه). كما أن دفع أعلى مرتب لرئيس تحرير جريدة مصرية بدون تكليفة بمهام جديدة أو تحميله أعباء وظيفية أخرى (بل بالعكس العرض عليه تقليل عمله واقتصاره على كتابة مقال يومي فقط) هو فعل يزكم الأنوف. هناك طرفان افتراضيان مرئيان بهذه القصة المفترضة : طرف رافض كان من المتوقع منه قبول زيادة المرتبات بهدوء وفرح مقابل الخضوع والامتثال لأوامر ونواهي السلطة الجديدة، إلا أن نزاهته وضميره الصحفي أمليا عليه التصرف بشرف وعزة وكرامة. وطرف المالك الجديد الذي قام برفع المرتبات - دون تذمر أو طلب من أحد الموظفين - بحبكة ممتازة (قرار منفرد من أحدهم تم تنفيذه فعلا دون تشاور مع باقي المساهمين! وانزعاج الآخرين من هذا القرار. وهو أمر إن دل على شئ فإنما يدل على انعدام العمل المؤسسي الذي يزعمون اتباعه!). وطرف ثالث غير مرئي وهو الأهم والمستفيد الرئيسي - يقبع في خلفية المشهد ويحرك خيوط الطرف الثاني - وربما الوحيد فيما حدث (وذلك في حالة عدم تعويضه للخسائر المالية التي منيا بها الطرف الثاني أثناء تنفيذه للخطة وإن كان ذلك مستبعدا). صاحب المصلحة الحقيقية فيما جرى هو الطرف الغير مرئي وقد ضمن تحقيق هدفه منذ اللحظة الأولى في كلتا الحالتين: نجاح خطة رفع المرتبات بطريقة جنونية أو فشلها. الأقنعة محكمة. ارفعوا قبعاتكم. تحتل مصر المركز 111 ضمن 180 دولة بمؤشر الفساد في العالم الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية Transparency International . وإذا كان لنا أن نتقدم في ترتيب الدول، لنتبوأ المكانة التي تستحقها مصر بلد الحضارة، فإنه يجب أن يكون في قمة أولويات الحكومة سن قانون جديد لمحاربة الرشوة يأخذ في الحسبان حنكة الفاسدين من أصحاب الياقات البيضاء وأساليبهم المستحدثة وطرقهم الجديدة للرشوة في القرن الواحد والعشرين. السؤال الحقيقي هنا هو: هل تريد حقا حكومة الحزب الوطني الخلاص من الفساد والقضاء على الفاسدين والمفسدين؟ أم أن الوضع الحالي يريحها. فلنحكم عليها بأفعالها وليس بأقوالها حتى لو تفوهت بكلام معسول– كلام وحسب – لإيهامنا بعكس ذلك. أغلب الظن أن هذا الملف سينتظر التغيير القادم بإذن الله.