في ذكري رحيل جمال عبدالناصر تتداعي الذكريات إلي سنوات الطفولة التي كانت خالية من لعب الأطفال ومن وسائل الترف والترفيه حيث كنا فقراء.. لم أكن وحدي.. كان زملاء الفصل والفصل المجاور، والبيت والبيت المجاور كلهم مثلي، لذلك لم نكن نعاني الشعور بالحرمان. ما زلت أذكر أن أقصي أحلامي كان الحصول علي ساندوتش بسطرمة من التي كان يجلبها فراش المدرسة بعد أن يقوم بجمع ثلاث تعريفات ممن يريد واحداً، وكان عدد الراغبين من زملائنا الأثرياء بالفصل لا يزيد علي ثلاثة أو أربعة! أما الباقون وأنا منهم فكانوا يكتفون بالساندوتش الذي يبيعه عم سعد بائع الطعمية بتعريفة!. لكن إلي جانب هذا التبرم الذي كان يستمر خمس دقائق في اليوم كان الزهو يملأني بقية اليوم كرئيس للفصل (كانت معايير الاختيار تجمع ما بين التفوق العلمي وقوة الشخصية) والجميل أنه كان يداخلني يقين لا يعرف الشك أنني بالغ ساندوتش البسطرمة وما أكثر منه في المستقبل. ولا شك أن وجبة الجبنة الدمياطي مع العيش المحمص (الوجبة المفضلة عند جمال عبدالناصر) كانت تعطينا الإحساس بأن المسافة بيننا وبين رئيس الجمهورية هي مسافة وهمية، ولا يتصور أحد كيف يكون موقفك من الدنيا وحبك لها وإقبالك عليها وتعلقك بها وعشمك فيها عندما تعرف أن طعام رئيس الجمهورية هو نفس طعامك. ملحوظة: هذا الزهد هو أحد أسباب حبي للرئيس الإيراني أحمدي نجاد ولو كره المتعاصون!. عندما أقارن بين هذا وما حدث من ابني وهو عائد من المدرسة مكتئباً ذات يوم رافضاً الحديث، وعندما ألححت في معرفة سبب ضيقه اعترف لي بعد ضغط بأنه يشعر في الفصل بأنه أقل من زملائه!. لماذا يا حبيبي بالصلاة علي النبي؟ لقد أدخلتك أغلي مدرسة لغات مسايرة للموضة التي لم أستطع مقاومتها، وأقوم عن طيب خاطر بدفع مصروفاتك التي تحصل في مقابلها علي تعليم هزيل وسخيف! واخترت لك مدرسة مجاورة للبيت تمضي إليها في دقيقتين، وأمنحك مصروفاً أخفيت عن أبي حجمه حتي لا يظن أنه لم يحسن تربيتي، ومن يوم أن أصبحت ابناً لي لم أسمح بأن تركب أوتوبيس أو حتي ميكروباص حيث جئت إلي الدنيا ولدينا سيارة.. ناهيك عن الطعام والشراب والثياب والنزهات والسفر للخارج والسينما والمسرح، هذه الأشياء التي كانت تشغل بالي وتصاحبني في أحلام اليقظة طول الوقت وأنا في مثل سنك كلها بالنسبة لك مسلمات لا تستدعي أي توقف.. وعندما طلبت مني 200 جنيه لشراء رواية "هاري بوتر"بالإنجليزي من عند فيرجين منحتك المبلغ وأنا أضحك، وقتها لم تفهم سبب ضحكي ولم تعرف التاريخ الذي استدعيته ولا المحطات التي مرت أمام عيني وأنا أبيع الكتب القديمة في سور الأزبكية لأشتري كتباً جديدة.. وبعد هذا كله تأتي الآن لتقول لي إنك تشعر بالحرمان!. ذهلت عندما صارحني ابني بأن معهم بالفصل أولادًا يأتون المدرسة وفي جيوب كل منهم آلاف الجنيهات!.صرخت ملتاعاً: ماذا؟ آلاف الجنيهات؟. قال: نعم، قلت: ماذا يعمل آباؤهم؟. قال: رجال أعمال.. وهم يقومون ببذر المال علي السعاة والفراشين بل بعض المدرسين!.. وكل يوم يطلبون بالتليفون الطعام دليفري من المطاعم المنتشرة بالحي وتأتي سيارات الخدمة من المطاعم محملة بالوجبات التي ينتظرها المدرسون حتي إنهم أصبحوا يلحون في طلبها إذا تأخرت، وصار توددهم إلي هؤلاء التلاميذ داعياً إلي سخريتنا!. عند هذا الحد وجدتني لا أريد أن أسمع ولا أن أعرف المزيد.. وترحمت علي جمال عبدالناصر الذي كنا في زمنه لا نملك شيئاً، لكننا لم نشعر بأننا فقراء، كنا مرفوعي الرأس ولم نعرف أبداً القنوط أو نحس بالضآلة والهوان، علي العكس كان الأمل والكبرياء والثقة في الغد عنوان أيامنا.. كنتُ الألفة علي الفصل دون أن يكون أبي وزيراً أو تكون خالتي رقاصة، وكان المدرس رجلاً بحق.. واليوم فإن أبناء اللصوص والغواني جعلوا ابني يشعر بالاكتئاب وجعلوني أشعر بالخجل لأني أتيت للدنيا بأبناء وأسكنتهم في وطن العار!. رحم الله جمال عبدالناصر