آه يا وطني الحزين.. حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين هذا بعض مما خطه قلم الشاعر نزار قباني تعبيرًا عن المسار الذي اتخذه شعره رغمًا عنه، فبدلاً من أن يتفرغ لشعر الهوي والغزل الذي يتقنه ويحبه ويبرع فيه وجد نفسه والحرائق تشتعل في وطنه يدع ترف أشعار العشق والغرام ليدخل معمدانية النار ويكتب بالسكين أشعاراً حادة جارحة يستشعر قارئها نصل السكين وآلام جروحه. وبالنسبة لي عندما أنظر إلي العمر الذي مضي أراني أقرب ما أكون لهذا المعني الذي قصده نزار قباني.. فكثيراً ما وجدت نفسي ممتلئاً حد التخمة بقصيدة شعر تقف أبياتها علي الباب منتظرة أن أمد يدي وأقطفها، أو مشحوناً بعمل روائي تتشكل فصوله وشخوصه وتمثل أمامي بوضوح ولا ينقصها سوي أن أتفرغ وأجلس لأكتبه..لكن للأسف فإن الوطن الحزين لا يرحم ولا يترك لي فسحة لأكتب ما أحب. بالأمس أرسل لي صديق عزيز رسالة قصيرة قال فيها: «مقالك اليوم قاسٍ للغاية رغم حقيقة ما كتبته». فرددت عليه قائلاً: أنا أعلم أنه كذلك ولست سعيداً بما كتبت.. ولكن ماذا أفعل؟. كل يوم جرح جديد وكل ساعة مفاجآت غادرة حتي لم نعد قادرين علي اتقاء الضربات الآتية من كل اتجاه.. من رجال السياسة ورجال الأمن ورجال البيزنس ورجال الدين، ولقد تكسرت النصالُ علي النصال حتي لم يبق موضع في الروح إلا وبه ضربة سيف أو طعنة خنجر. فهل يترك المرء كل هذا الإجرام في حق الوطن وأهله ويسكت عنه ثم يجلس ليكتب قصصاً وأشعاراً عن الحب والهوي !. كنت أحلم زمان بأن الثورة التي أنصفت الفلاحين وقامت بتوزيع خمسة فدادين علي كل فلاح تمنحني بالمثل أفدنة خمسة، وتمنيت أن أبني في وسطها بيتاً صغيراً من الطوب اللبن علي طريقة المعماري الأعظم حسن فتحي، وأن أزرع الأرض بيدي ورداً وفلاً وياسمين ورياحين وأبيع جزءاً من الأزهار لأتعيش من ثمنها وأهدي الباقي لأصدقائي وأجلس علي باب البيت وبجواري زير الماء البارد ثم أمد بصري للأمام فأشاهد الحقول الخضراء وأملأ من منظرها عيني ومخيلتي ولا أفعل شيئًا سوي أن أكتب أشعارًا تزيد وتكبر كل يوم لتشكل دواوين كثيرة أعصر فيها قلبي وأقدمه للعشاق. هل ترون كيف هو حلم بسيط وساذج حتي يظنه البعض سهل المنال؟!.. لكن عشرات السنين مرت ولم يزد مرور السنين الحلم إلا ابتعاداً!.. وأدركت بعد أن رأيت الحلم يفر من بين أصابعي ويركب الناقة ويشرخ أنني تهورت بأكثر مما يجب وطلبت من الدنيا أكثر مما تستطيع أن تقدم لي وأن ما حلمت به يفوق ما تمناه «علي» ابن الريس عبد الواحد عندما ذهب يطلب يد إنجي من أبيها الباشا! وفهمت بعد فوات الأوان أنني مضيت بعيداً في التحليق بالخيال ولم أتبن حلماً يسهل تحقيقه. فحتي عندما أصبح شراء الأفدنة الخمسة ممكناً بعد رحلة حياة شاقة ومؤلمة.. أين هي النفس التي تقدر علي كتابة شعر الحب والعاطفة؟!، وأين هو الجلد السميك الذي يسمح بأن تشاهد الوطن يستباح واللصوص يقتسمون المسروقات في وضح النهار والخيانة تتسمي حكمة والوزير وأولاد الحاجّة خالته يستولون علي أرض مصر دون حساب، والإسرائيليون صاروا أعز الأصدقاء والمقاومون أصبحوا إرهابيين، وأصدقاء السفير الإسرائيلي يرفعون قضايا علي من يكشف سفالتهم، والفتنة الطائفية من جانب الكهنة المجرمين تعصف بكيان الدولة؟!.. ثم بعد كل ذلك تجد في نفسك القدرة والرغبة في أن تجلس علي شط القناية ساعة العصاري والهوا مهفهف مرتدياً الجلباب الفلاحي المريح لتكتب أشعارًا!. لعنة الله علي من حرموني من حياة حلوة أظنني كنت أستحقها!.