نصب الصديق الزميل إبراهيم عيسي لي فخًا وأوقعني في شر أعمالي عندما استضافني ببرنامجه التليفزيوني بقناة «أون تي في»، واستدرجني لأحكي صفحات من التاريخ والسياسة أدخلتني عش الدبابير التي هاجت ومازال بعضها يطن طنينًا لا يهدأ! وهأنذا أقع في الفخ ثانيةً بالكتابة ل«الدستور» بدعوة سبق هو إليها عقب انتهاء البرنامج إياه وجددها الصديق والأخ الزميل خالد السرجاني الذي تربطني به وبالصديق إبراهيم منصور وبرئيس التحرير علاقات أصبحت قديمة تعود إلي منتصف الثمانينيات. غير أنها فخاخ محببة يميزها أنها مشدودة إلي أرض الوطن محمية بأحراشه وترابه ومظللة بزرعه! والكتابة لمن يعرف قدر الكلمة ويقدر علي تحمل تبعات آثارها، مهمة شاقة، خاصة إذا ارتبطت بالالتزام الدوري: «يوميا أو أسبوعيا»، وبالالتزام الآخر الذي هو الأساس: احترام عقل القارئ، والصدق في كل واردة وشاردة، وتقديس مهمة النهوض بالوطن. ولقد تدافعت الأفكار في ذهني للإجابة عن ماذا أكتب لأول ظهور «دستوري»؟! هل أبدأ تصادميًا حادًا كما هي السمة الغالبة علي ما أكتبه منذ احترفت الكتابة اليومية والأسبوعية قبل ثلاثين عامًا، أم متصالحًا هادئًا، أو بالأحري مهادنًا ولو إلي حين مثلما يفعل عديم الدربة علي السباحة مثلي إذ يتحسس الأرض بمقدمة أصابع إحدي قدميه ليطمئن أنه مازال ملتصقا باليابسة وإلا اقتلعته الأمواج وقلبته رأسًا علي عقب أو شفطته الدوامات إلي ما لا قرار؟! ثم قلت في نفسي ولها: اترك القلم يمضي علي الورق ولتأتِ السطور كما تأتي، ويكفي ما أنت فيه من ذعر عام والعملية مش ناقصة ذعر يخص الكتابة ومحتواها! نعم، لا أخجل من أن أعلن أنني مذعور، والذعر فيما أظن وبغير رجوع للمعاجم درجة أعلي من الخوف وأقوي من الفزع، وأبدو كفلاحٍ سقطت جاموسته في «بير الساقية»، أو شبت النار في حقل قمحه وزريبة بهائمه، وهي خبرة عشتها وترسخت في أعماق أعماقي، ومازال الصراخ يملأ أذنيّ الاثنتين: «روحوا لي جاي يا هووه.. يا خلق هووه.. أغيثونا يامسلمين»!! مذعور أنا كلما اهتزت جدران الشقة في المنزل أو المكتب بفعل سيارة نقل مارة، لأنني أتذكر علي الفور تصريح محافظ القاهرة السابق عبد الرحيم شحاتة الذي قال بعد انهيار عمارة مدينة نصر بشارع عباس العقاد: هذا هو مصير معظم عمارات مدينة نصر والأحياء الجديدة نتيجة الحديد والأسمنت المغشوشين ومواصفات البناء الفالصو. ومذعور إذا خرجت من باب الشقة وطلبت الأسانسير فربما أفتح لأسقط في البئر لأن الكابينة غير موجودة، وربما تسقط الكابينة بمن فيها لأن الأسلاك متهالكة والفرامل بايظة! ثم مذعور إذا خرجت للشارع خشية سيارات مارقة بسرعة البرق وكأنها منطلقة علي الصحراوي عقب تجاوز موقع كمين الرادار! ويمتد خيط الذعر من تلك الأمور الهامشية الرفيعة التي تخص حياة العبد لله وأهله وجيرانه إلي الأمور الرئيسية الكلية التي تخص حياة الوطن ومن وما فيه! مذعور من إدراك شبه يقيني أن الاختراق واصل إلي الأحشاء!.. اختراق قد يبدأ من أحد لم يتساءل حول أولئك القادمين من الخارج ويريدون أن يحكمونا، أحدهما قضي ما يقرب من عقد في عاصمة أوروبية وفي مؤسسة أمريكية، والثاني قضي عدة عقود في مؤسسات دولية، هل يحتمل أن تكون أصابع الأجهزة الذكية لجهة أو أخري وصلت إليهم أم لا، ولا ينتهي بما لحق بنا من ضربات سياسية واجتماعية واقتصادية وسلوكية، واعطف علي ذلك ما شئت من مجالات، وهي ضربات قاسية وبعضها كان قاصما، ومنه ذلك التفتيت الطائفي والمذهبي، وذلك التفكيك الاجتماعي المخيف. ومذعور أيضا من طغيان البكتيريا الضارة القاتلة علي بيئتنا الفكرية والثقافية والسياسية وقدرتها علي قتل البكتيريا النافعة، حيث إنني من المؤمنين بقول السيد المسيح له المجد: «قليل من الخمير يخمر العجين كله».. وما الخميرة إلا تلك البكتيريا النافعة التي تتفاعل وتتكاثر لتجعل للخبز طعمًا لا يمل ولا ينسي! مذعور كذلك من حالة الاغتراب النفسي التي تفشت وباء يقتل كل مظاهر ومضامين الولاء والانتماء لهذه الأرض، ومعه حالة الجهل والتجهيل بما كان في هذا الوطن من تقاليد وظواهر في ريفه وباديته وحضره ومدنه، وأتأمل بإشفاق شديد أحفادي وهم يطلبون التفاح الأمريكاني المستورد المغطي بالشمع وفاقد الطعم، ومعه مثيله من المستوردات، وأتذكر طعم الجميز المسكر الطازج المجني قبل ليلة من أشجار الجميز العظيمة والمغطي بعيدان الرعراع وأطراف الصفصاف بعد أن تم تختينه بطرف سكين ليتحول سكر الفركتوز فيه إلي جلوكوز!!، وأتذكر طعم التوت البلدي المتساقط علي حصيرة ممدودة تحت الشجرة، وكيف كان يصبغ أصابعنا وهدومنا وما حول أفواهنا!.. ثم أقارن بين الحب علي النت والفيس بوك، وبين الحب علي الناصية وبالقرب من موردة الماء علي الترعة، وهن عائدات يحملن زلع الماء مائلة فوق الحواية علي رؤوسهن، وقد بلل الماء الجلاليب فالتصقت بالنهود والخصور، والقدود مشدودة فيما الأذرع تتمرجح يمنة ويسرة، والكعوب وردية بفعل «الكحكة» بحجر الخفاف الأسود الشهير! مذعور من اندثار تراث الغيط والمولد والسوق وحضرات الذكر وكوادي الزار وغناوي الترحيلة وأناشيد جني المحاصيل وأنين ندب رحيل الأعزاء. وكذلك مذعور من ضيق الحلقات واستحكامها بغير أمل في أن تفرج.. حلقة العمق في الجنوب حيث تأتي مياه النيل.. وحلقة الامتداد في الشرق والشمال حيث صميم الأمن الوطني من البوابات الشرقية والشمالية، بوجود وتعاظم وافتراء العدو الصهيوني وتقلص ومرض العلاقات مع سوريا ولبنان.. ثم مسافة الاتصال مع الغرب حيث تقلب العلاقات بوتائر تستعصي علي فهم أي عاقل أو حتي أي عبيط! مذعور من مشهد وحوش الرأسمالية الفاشية المنحطة الذين يتحكمون في رقابنا ومصائر هذا الوطن، وأصبحوا لا يستحون من أي شين يفعلون.. وما يشينهم يجل عن الحصر، تآكلت الأقلام وجفت المحابر في رصده! إذن في ماذا أكتب وكيف؟ تلك معضلة سأحاول النفاذ منها إذا شاء الكريم، وشكرًا للأصدقاء في «الدستور» علي إتاحة هذه المساحة.